بطهارته إنما أخبر عما علمه من حاله بدأ.
قال أبو بكر رحمه الله: ويجوز أن نفرق بينهما من جهة أنهم لم يختلفوا في تزويج النبي عليه السلام ميمونة، وإنما اختلفوا في تاريخه.
فقال بعضهم: تزوجها قبل الإحرام. وقال بعضهم: تزوجها بعد الإحرام.
وكذلك لم يختلفوا في تخيير بريرة لم أخيرها النبي صلى الله عليه وسلم حين أعتقت. واختلفوا في تاريخه.
فقال قائلون: كان بعد عتق زوجها. وقال آخرون: قبل عتق زوجها. فكان خبر من أخبر بتاريخ الإحرام، وتاريخ عتق زوج بريرة، مقدما لعتقها. أو كما لو شهد شاهدان: أنه أعتقه منذ شهر، وأخبر اثنان: أنه منذ سنة. أن الوقت المتقدم أولى. فكان ذلك كلاما في تاريخ الحكم، وكان لما أثبتناه ضربا من الترجيح، وكان أولى.
وأما المخبر بنجاسة الماء وطهارته، فإنما أخبر عن شئ بعينه على وصفين متضادين، فجاز إسقاط خبريهما إذا تساويا، ولم يكن نظيرا لما وصفنا.
قال أبو بكر: ومتى ورد خبران متضادان: أحدهما بان على أصل قد ثبت، والآخر، ناقل عنه، وقد تساويا في جهة النقل، وسائر الأسباب، فالواجب أن يكون الخبر الناقل عن الأصل أولى من الخبر الباني عليه، على ما ذكرنا عن أبي الحسن في خبري الحظر والإباحة، سواء كان الناقل مبيحا لشئ قد ثبت حظره، أو حاظرا لشئ قد ثبت إباحته...
وينبغي على ما ذكرناه عن أبي الحسن وعن عيسى أن يسقطا جميعا، ويبقى الشئ على ما كان عليه قبل ورود الخبرين، وعلى هذا الاعتبار ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا تعارضا في النفي والإثبات، أن الشئ إن كان منفيا في الأصل، فخبر الإثبات أولى، وإن كان ثابتا في الأصل، فخبر النفي أولى، للعلة التي ذكرناها عن أبي الحسن: من أن ورود الإثبات على النفي متيقن، والثاني: يجوز أن يكون ورد على ما كانت عليه حال الشئ قبل ورود الاثبات.
وكذلك إن كان الشئ قد علم ثبوته. ثم ورد خبران: أحدهما: في إثباته، والآخر: في نفيه، فخبر النفي أولى، لأنا قد علمناه طارئا على الإثبات بدأ، وجائز أن يكون خبر الإثبات واردا على ما كان عليه حال الشئ في الأصل، وذلك نحو ما روي: أن النبي عليه السلام: كان يقنت في الفجر. وهذا متفق على نقله، وأنه قد كان. ثم روي أنه: ترك القنوت بعد فعله. فكان المثبت للقنوت ثابتا على أصل ما ثبت بالنقل. والنافي له أخبر: أن الترك كان طارئا على الفعل، فكان أولى، لأنه قنت بعد الترك، وقد ثبت أنه ترك بعد الفعل، فكان أولى، لما وصفنا.