فأما القسم الثاني من قسمي التواتر وهو: ما يعلم بالاستدلال: فإن أبا الحسن رحمه الله، كان يحكي عن أبي يوسف: أن نسخ القرآن بالسنة إنما يجوز بالخبر المتواتر، الذي يوجب العلم، كخبر المسح على الخفين، (1) فهذا الذي ذكره من قوله يدل على أنه كان يرى: أن من الأخبار المتواترة ما يعلم صحتها بالاستدلال، لأن هذه صفة المسح على الخفين، إذ لا يمكن أحد أن يدعي في ثبوته وصحته علم اضطرار.
وقد حكينا عن عيسى بن أبان رحمه الله في صدر هذا الباب: أن الخبر المتواتر عنده هو الذي يوجب علم الضرورة، وأنه لم يجعل ما ليست هذه منزلته من خبر التواتر.
قال أبو بكر رحمه الله: ومن نظائر المسح على الخفين من الأخبار: ما روى عن النبي عليه السلام: في تحريم التفاضل في الأصناف السنة، وما روى عنه عليه السلام: من إباحته متعة النساء، ثم حظرها بعد الإباحة، ومثله أخبار الرجم، وأشباه ذلك من الأخبار التي نقلها عن النبي عليه السلام جماعة يمتنع في مثلهم وقوع التواطؤ عليه، أو وقوع السهو و الغلط فيه، فنعلم بتأملنا حالها أنها صحيحة، ولا توجب العلم الضروري، لأنا لم نتأمل حال هذه الأخبار، ولم نستدل على صحتها، لما وقع لنا العلم بخبرها، و قد كان ابن عباس يجيز التفاضل في الأصناف الستة، ويعارض هذا الخبر بخبر أسامة بن زيد: عن النبي عليه السلام أنه قال: (لا ربا إلا في النسيئة) ثم لما تأمل حاله وتواتر عنده الخبر به نزل عن قوله، ورجع إلى ترحيم التفاضل فيها. وقد قال عيسى في كتابه (في الرد) (2) على المريسي لا يخلو الحديث من ثلاثة أوجه يضل تاركة، ويأثم، ويشهد عليه بالبدعة، والخطأ.
وذلك مثل الرجم يرده قوم بقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (3) قالوا: لأنه لم يتواتر به الخبر كما تواتر بالصلاة والصيام، ولا يكفرون لأنهم لم يردوا على الله ولا على رسوله، وإنما خالفوا الناقلين، فأخطأوا في التأويل، وعارضوا بظاهر الكتاب.
قال: والوجه الثاني: مثل خبر الصرف، وخبر المسح على الخفين، يخطئ مخالفة،