اضطرارا بأنه يوجب العلم بمخبره، لامتناع وجود اجتماع الكذب منهم في شئ واحد عن مخبر واحد، وذلك لأن نقل الأخبار من ناقليها إنما يكون حسب الأسباب الداعية إليه، والعلل المثيرة لنقلها.
ألا ترى أنهم ينقلون ما ليس له سبب داع إلى نقله، من نحو مخبر إنه رأى ناسا يمشون في الأسواق، وآخرين يتبايعون فيها، وما جرى مجرى ذلك، لأنه ليس هناك سبب يدعو إلى نقل مثله.
وكذلك اختراع الأخبار التي لا أصل لها، وإنما تتفق على حسب الأسباب الداعية إليه.
ومعلوم الاختلاف (في) (1) دواعي الناس وأسبابهم. فغير (2) جائز منهم وقوع اختراع خبر لا أصل له من غير تواطؤ.
ألا ترى: أنه يمتنع في العادة أن يخطر ببال كل واحد من الناس في وقت واحد: أن يبتدئ اختراع الكذب في شئ واحد، حتى يخبر كل واحد منهم: أن القمر انشق ليلة البدر وصار قطعتين، وبقيتا طول الليل كذلك حتى غابتا. فكذلك يمتنع اختراع خبر لا أصل له في الجمع الكثير، إلا عن تواطؤ.
وليس الكذب في هذا كالصدق، فيجوز اتفاقهم على نقل خبر أمر قد شاهدوه، وإن كانوا مختلفي الهمم والأسباب غير متشاعرين، وذلك لأن الأخبار بالصدق داعي تجمع هذه الجماعات على نقله والإخبار به، وهو مشاهدة ما أخبروا عنه، وما جعل في طباعهم من استنقال كتمان الأمور (3) العظام والأشياء العجيبة.
فلما كانت هناك دواعي تدعوا إلى نقله، وسبب يجمعهم إلى العلم به، وكان كتمان مثله مستنقلا في طباعهم سواء كان عليهم في إشاعته ونقله ضرر، أو لم يكن، صارت هذه الدواعي سببا لنقله والإشادة بذكره، لتبلغ الحجة بالإخبار مبلغها، وتنتهي منتهاها.