العقول، وبالنظر والاستدلال، ويحتج لصحة التقليد بالعقول، ولا يصح له الاحتجاج للتقليد بالتقليد نفسه، إذ لا يجوز أن تكون المسألة حجة لنفسها، فإنما يفزع إلى معنى غير التقليد، فيقول: إن (النظر بدعة، وإنه يدعو إلى الحيرة، وإلى الاختلاف والتباين) (1) ونحو ذلك من النظر، وإن كان فاسدا، فقد علمنا: أن المقلد والنافي للنظر إنما يثبته من حيث ينفيه، كما أن النافي لعلوم الحس إنما يروم نفيها بحجاج ونظر هو دون علوم الحس في منزلة الثبات والوضوح، فيقول: إنما أبطلت علم الحس، لأن الإنسان قد يرى في اليوم ما (لا) (2) يشك في حقيقته وصحته، كرؤيته لما يراه في اليقظة، ثم لا يجد بعد الانتباه له حقيقة، وكما يرى الإنسان السراب، فلا يشك في أنه ماء، ثم إذا جاءه لم يجده شيئا، وكالمريض (3) يجد العسل مرا، فلم آمن أن يكون كذلك حكم سائر المحسوسات، فيروم إبطال (علوم) (4) الحس بالنظر والاستدلال. كذلك المقلد: إنما يفزع في إثبات التقليد وإبطال النظر، إلى النظر والحجاج، فيناقض في مذهبه، ويهدم مقالته بحجاجه.
ويقال للقائل بالتقليد والنافي لحجج العقول: أثبت القول بالتقليد بحجة، فإن قال بغير حجة، فقد حكم على مذهبه بالفساد، لاعترافه بأنه لا حجة له في إثباته.
وأما قول أبي حنيفة رضي الله عنه: (حد البلوغ) فإنا قد علمنا: أن ابن عشر سنين لا يكون بالغا، وقد علمنا: أن ابن عشرين سنة يكون بالغا، فهذان الطرفان قد علمنا حكمهما يقينا، ووكل حكم ما بينهما في إثبات حد البلوغ إلى اجتهادنا، إذا لم يرد فيه توقيف، ولا يثبت به إجماع، فأوجب عنده اجتهاده: أن يكون حد البلوغ ثماني عشرة سنة.
وقد بينا وجه قوله فيه في مواضع غير هذا.
وكذلك قوله في الغلام إذا لم يؤنس منه رشدا (5) إنه (قد) (6) ثبت (7) بقوله تعالى:
(حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا