وصلاحهم إلا بإقرار منهم بعليم خبير يعلم السر وأخفى أمر بالصلاح ونهى عن الفساد ولا يخفى عليه خافية، ليكون في ذلك انزجار لهم عما يخفون به من أنواع الفساد.
فإن قال: فلم وجب عليكم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم.
قيل: لأ نه لما لم يكن في خلقهم وقوامهم بما يصيبون به (1) لمباشرة الصانع عز وجل حتى يكلمهم ويشافههم، وكان الصانع عن أن يرى ويباشر، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرا لم يكن بد لهم من رسول بينه وبينهم معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه ويقفهم على ما يكون به اجتلاب منافعهم ودفع مضارهم إذا لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم، فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن لهم في مجيء الرسول منفعة ولا صلاح، وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شيء.
فإن قال: ولم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟
قيل: لعلل كثيرة:
منها: أن الخلق إنما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا تلك الحدود، لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيها أمينا يأخذهم بالوقت عندما يبيح لهم ويمنعهم من التعدي على ما حظر عليهم، لأ نه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته بفساد غيره، فجعل عليهم قيم يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام.
ومنها: أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس لما لابد لهم في أمر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابد لهم منه ولا قوام لهم إلا به، فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم.
ومنها: أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة وذهب الدين وغيرت السنن والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون ونقص فيه الملحدون