وانحدرت إلى البصرة وداري قد عمرت، وضيعي قد كثرت، ونعمتي قد فشت فما تأخر عنى أحد فلما كان في اليوم الثالث تأملت أصاغر من جاءني فإذا البقال وعليه عمامة وسخة، ورداء نظيف، وجبة قصيرة، وقميص طويل في رجله جرموقان وهو بلا سراويل فقال لي: كيف أنت يا عبد الملك؟
فاستضحكت من حماقته وخطابه لي بما كان يخاطبني الرشيد. فقلت بخير وقد قبلت وصيتك وجمعت ما عندي من كتب العلم وطرحتها في الدن كما أمرت وصببت عليه من الماء للعشرة أربعة فخرج ما ترى، ثم أحسنت إليه بعد ذلك وجعلته وكيلي.
أخبرني القاضي أبو علي محسن بن علي قال مسرور الكبير: استدعاني المأمون ليلة وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي: خذ معك فلانا وفلانا وسماهما لي أحدهما علي بن محمد والآخر دينار الخادم. واذهب مسرعا لما أقول لك فإنه بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى آثار دور البرامكة وينشد شعرا ويذكرهم ذكرا كثيرا ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف فامض أنت وعلى ودينار حتى تردوا تلك الخرائب، فاستتروا خلف بعض الجدران فإذا الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتا فأتوني به. قال: فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرائب فإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساط وكرسي حديد، وإذا شيخ قد جاء وله جمال وعليه مهابة ولطف، فجلس على الكرسي وجعل يبكى وينتحب ويقول هذه الأبيات:
ولما رأيت السيف جندل جعفرا * ونادى مناد للخليفة يا يحيى بكيت على الدنيا وزاد تأسفي * عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا مع أبيات أطالها فلما فرغ قبضنا عليه وقلنا له: أجب أمير المؤمنين ففزع فزعا شديدا وقال: دعوني حتى أوصى بوصية فإني لا أوقن بعدها بحياة، ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلمها إلى غلامه، ثم سرنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين قال حين رآه: من أنت؟ وبما استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟