فإذا كانت أحكام الوهم جارية في نفس المحسوسات فإن العقل يصدقه فيها، فيتطابقان في الحكم، كما في الأحكام الهندسية، ومثل ما إذا حكم الوهم بأن هذين الجسمين لا يحلان في مكان واحد بوقت واحد، فإن العقل أيضا يساعده فيه لحكمه بأن كل جسمين مطلقا كذلك، فيتطابقان.
وإذا كانت أحكامه في غير المحسوسات - وهي التي نسميها بالقضايا الوهمية الصرفة - فلا بد أن تكون كاذبة لإصرار الوهم على تمثيلها على نهج المحسوسات وهي بحسب ضرورة العقل ليست منها، كما سبق في الأمثلة المتقدمة، فإن العقل هو الذي ينزع عنها ثوب الحس الذي أضفاه عليها الوهم.
ومن أمثلة ذلك حكم الوهم بأن كل موجود لابد أن يكون مشارا إليه وله وضع وحيز. ولا يمكنه أن يتمثله إلا كذلك، حتى أنه يتمثل الله تعالى في مكان مرتفع علينا، وربما كانت له هيئة إنسان مثلا. ويعجز أيضا عن تمثيل (1) القبلية والبعدية غير الزمانية، ويعجز عن تمثيل اللا نهائية، فلا يتمثل عنده كيف أنه - تعالى - كان وليس معه شئ حتى الزمان، وأنه سرمدي لا أول لوجوده ولا آخر. وإن كان العقل - حسبما يسوق إليه البرهان - يستطيع أن يؤمن بذلك ويصدق به تصديقا لا يتمثل في النفس، لأن الوهم له السيطرة والاستيلاء عليها من هذه الجهة.
فإن كان الوهم مسيطرا على النفس على وجه لا يدع لها مجالا للتصديق بوجود مجرد عن الزمان والمكان، فإن العقل عندما يمنعها من تجسيمه وتمثيله كالمحسوس تهرب النفس من حكم العقل وتلتجئ إلى أن تنكر وجوده رأسا شأن الملحدين.