ويخاف أيضا من الميت وهو جماد لا يتحرك ولا يضر ولا ينفع، ولو عادت إليه الحياة - فرضا - فهو إنسان مثله كما كان حيا، وقد يكون من أحب الناس إليه.
ومع توجه النفس إلى هذه البديهة العقلية ينكرها الوهم ويعاند، فيستولي على النفس، فقد تضطرب من الظلمة ومن الميت، لأن البديهة الوهمية أقوى تأثيرا على النفس من البرهان.
ولأجل أن يتضح لك هذا الأمر جرب نفسك واسأل أصدقاءك: كيف يتمثل لأحدكم في وهمه دورة شهور السنة؟ تأمل ما أريد أن أقول لك!
فإن الإنسان - على الأكثر - لابد أن يتوهم دورة شهور السنة أو أيامها بشكل محسوس من الأشكال الهندسية - تأمل في نفسك جيدا - إنه لابد أن نتوهم هذه الدورة على شكل دائرة منتظمة أو غير منتظمة أو مضرسا بعدد الشهور، أو شكلا مضلعا متساوي الأضلاع أو غير منتظم في أضلاع أربعة أو أكثر أو أقل. مع أن السنة ودورة أيامها وشهورها من المعاني المجردة غير المحسوسة. وهذا واضح للعقل، غير أن الوهم إذا خطرت له السنة تمثلها في شكل هندسي وهمي يخترعه في أيام طفولته من حيث لا يشعر، ويبقى وهمه معاندا مصرا على هذا التمثل الكاذب. ولعلم الإنسان بكذب هذا الوهم وسخافته قد يخجل من ذكره لغيره ولكنه لا ينفك عنه في سره. وإنما أذكر هذا المثال لأنه يسير لا خطر في ذكره وهو يؤدي الغرض من ذكره.
والسر في ذلك أن الوهم تابع منقاد للحس ومكبل به، فما لا يقبله الحس لا يقبله الوهم إلا لابسا ثوب المحسوس، وإن كانت له قابلية إدراك المجردات عن الحس كقابليته لإدراك المحسوسات (1).