وعلى أي حال، ومهما يكن من أمر، فقد عرفت عرفانا لا يقبل الشك والارتياب أن التشريع الديني والتحرر الفكري يقضيان قضاء جازما لا رد فيه ولا ترديد بفتح باب الاجتهاد فتحا يفتح به ألف باب، ولا يريان سد هذا الباب بوجه من الوجوه.
فهاهنا سؤال هو منبت الداء وأصل البلاء، هو: أنه من سد هذا الباب في هذا اليوم وقد يقدر له أن يبقى مسدودا ولا يقدر أن يفتح مهما تعاقبت الأجيال والسنين، وهو باب قد كان مفتوحا على مصراعيه عند الصحابة والتابعين وتابعي التابعين باعتراف من الجميع لا يقبل الجدل والانكار، وقد ينفتح لنا - ببركة فتح باب الاجتهاد -؟ من هذا السؤال سؤال آخر: هو أن سد باب الاجتهاد في هذا اليوم وهذا العصر كان باجتهاد أم كان بتقليد؟ إن قلت بالأول ناقضت مبدأك الذي تسير عليه، فإن هذا فتح لباب الاجتهاد وأنت تستنكره أشد الاستنكار. وإن قلت بالثاني انتكست عن اعتراف لا تجد مجالا فيه لإنكار أو جحود، فمن الذي قاله من الصحابة والتابعين يتبع فيه إن صح اتباعهم أو تقليدهم في مثل هذه الشؤون.
لقد عرفت أن التقليد - وقد عرفت معناه ومغزاه - إنما سوغ واستسيغ لمن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد من المكلفين بما دلت عليه أدلته من آيات وروايات، وبما ظهر لك من شئ أو بعض شئ من الحكم والفوائد.
هذا شئ لا ينكره العقلاء ولا المتشرعون، لكن من الذي فرض على الناس أن يكونوا جهلاء حتى يحكم عليهم بالاتباع والتقليد؟ ومن الذي خول أولئك المذاهب أن يحرزوا مرتبة الاجتهاد ثم يقف الاجتهاد عند حد هؤلاء فلا يعود سائغ الحصول والتحصيل لغيرهم من الناس أجمعين؟ إن هذه في الحقيقة جناية على العلم والعلماء، وعلى الأفكار والمفكرين، بل هي جناية على المذاهب أنفسهم إذ