أقول: إن الكلام في المقام يقع في مرحلتين:
إحداهما: مسألة نسخ الكتاب بالسنة، وقد وقع فيها كلام كثير وخلاف كبير، فقائل بجواز النسخ ووقوعه، وقائل بعدم جوازه وعدم وقوعه، وقائل بجوازه دون وقوعه، وهناك مفصل في القول، ذلك أنه أجاز نسخ السنة للكتاب إذا وافقها وأيدتها آية من الكتاب، وحيث لا وفاق ولا تأييد، فلا جواز.
وملخص دليل من أجاز نسخ السنة المتواترة للكتاب هو أن السنة المتواترة متلقاة من الرسول (صلى الله عليه وآله) قطعا، والرسول معصوم في تبليغ الأحكام، فمتى أيقنا بصدور الرواية عنه واستوفت شروط النسخ اعتبرت ناسخة للكتاب، كما إذا نسخت آية آية ولا يتأتى فيها ما يتأتى في السنة المروية بخبر الواحد، لأن هذه ظنية فلا ينسخ بها القطعي، وهو الكتاب، إذ المفروض أن السنة المتواترة قطعية، فنسخ الكتاب بها نسخ قطعي بقطعي آخر.
وملخص دليل من منع من نسخ الكتاب بالسنة - كما هو رأي الشافعي وجماعة - هو أن للكتاب مزايا وخصوصيات لا يشاركه فيها غيره، وقد عرفت الاستدلال السابق بالآية الكريمة وجوابه، وقد رد الشافعي ما أورده المجوزون من السنة التي هي في زعمهم ناسخة للقرآن، وبين أنها ليست بناسخة وإنما هي شارحة ومفسرة، وهذا الكلام كله في السنة المتواترة، أما السنة غير المتواترة وهي السنة المحكية بخبر الواحد فقد أسف فيها بعض المغفلين فذهبوا إلى جواز نسخ الكتاب بالسنة المحكية بخبر الآحاد ظنا منهم - والظن لا يغني عن الحق شيئا - بأن دلالة الآية على الحكم ظنية، فكأننا لم ننسخ إلا حكما ظنيا بحكم ظني آخر، ولم يفطنوا إلى أن الحديث المحكي بخبر الواحد ظني في الدلالة والصدور، فإذا نسخنا به الكتاب فقد نسخنا حكما ظنيا إسناده إلى الشارع قطعي، بحكم ظني