ومن هذا الباب وعلى هذه الوتيرة جاء التكرار في بعض آيات الكتاب الكريم، فإن في التكرار روعة على النفس، وهيمنة على القلب، وتأثيرا على المشاعر، ووقعا على الأسماع، لا يعرفه إلا المتعمقون في فنون البلاغة، وجاس خلال من كلام البلغاء، وكم وكم تنافس في ذلك المتنافسون، على أننا نستطيع أن نقول - وما ذلك القول ببعيد -: إن قسما من التكرار الواقع في القرآن الكريم لو أعطي النظر حقه فيه لم يكن من التكرار في شئ، فإن التكرار في سورة الجحد * (قل يا أيها الكافرون) * لم يكن محض تكرار إذا عرفنا سبب نزول تلك السورة، وأنها نزلت جوابا للمقترحين على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يعبد آلهتهم زمنا ما ويعبدوا إلهه طيلة ذلك الزمن، وقد كان ذلك الاقتراح في نوبات متعددة، وحددوا له في ذلك أزمنة تختلف، فكان لكل نوبة جواب على اختلاف تلك الأزمنة المحدودة.
هذا إذا قلنا: إن ما في قوله تعالى: * (لا أعبد ما تعبدون) * (1) وفي * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * (2) هي في كل الآيات المتكررة موصولة:
أما لو قلنا: إن ما هي في بعض الآيات موصولة وفي بعضها مصدرية، فاختلاف المعنى في الآيات المتكررة يظهر بكل وضوح، فكأنه تعالى يقول في آية:
لا أعبد آلهتكم التي تعبدونها وهي الأصنام المنحوتة، ولا أنتم عابدون الإله الذي أعبده وهو الإله العزيز القدير المتحلي بكل صفات الكمال والجلال. ويقول في آية أخرى: ولا أنا عابد العبادة التي تعبدونها في المستقبل، ولا أنتم عابدون ما أعبد وهي عبادة الله موحدا له لا أعبد إلا إياه ولا أرى إلها سواه، لكن في هذا الجواب إن هذا إنما يتم فيما إذا جعل الموصول كناية عن الأصنام وهي غير عاقلة، فالتعبير عنها