ووقارا له، فلا يبقى فيها مكان لشيطان، ولا موضع لهوى، ولا جنوح لشهوة، ولا إرادة لشئ سوى إرادة الله.
وقال عفيف عبد الفتاح طباره في كتابه: " مع الأنبياء في القرآن الكريم " ص ١٩: فالله سبحانه تولى تأديبهم وتربيتهم، وعصمهم عن الوقوع في الذنوب والمعاصي، فلم تكن حياتهم لأنفسهم، بل كانوا مثلا يهتدى بهديهم، ويسار على نهجهم، ثم غدت سننهم، وذكراهم من بعد وفاتهم، مصابيح تضئ للإنسانية ظلمة الحياة، وتوضح لها طرق الرشاد، فهم الهداة الذين أمرنا الله بالاقتداء بهم.
وأما قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " الكلام في هذه الآية ووضوح تفسيرها يستدعي البحث في معنى الرسول، والنبي، والمرسل، أن الرسول صفة مشبهة لازم هو من يتلقى العلوم من الله بواسطة الملك بحيث يراه ويشاهده ويكلمه مشافهة ويقرء عليه أو يلقى إليه كلام الله تعالى فيسمى ذلك رسالة والإنسان الواجد لهذا الأمر رسولا والغاية في إطلاق الرسول عليه هي أخذه لرسالة الله بواسطة رسل السماء فقد أدوا إليه رسالة ربهم فصار رسولا أي ذا رسالة.
وإن كان التلقي وإفاضة العلم من الله تعالى بغير الطريق المذكور فهو يسمى نبوة سواء كان ذلك الطريق الآخر هو الالهام الصريح والحضور مثل ما أوحي لنبينا ليلة المعراج، وما أوحي إلى موسى في طور سيناء، أو سماع صوت في النوم أو اليقضة أو بالقذف في قلبه (النبي صفة مشبهة لازم كشريف) قال الله تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم (شورى: ٥١) وأشار لما استظهرناه فخر الدين الرازي في تفسيره ج ٢٧ ص ١٧٦ بقوله: ويشهد على ذلك أن لفظ النبي والرسول صفتان مشبهتان أخذ من الفعل اللازم، والمرسل من باب الأفعال متعد غير لازم فليس الرسول بمعنى المرسل والرسل بمعنى المرسلين إلى الناس. وأيضا يشهد لما استظهرناه في معنى الرسول والنبي وقوعهما مفعولا لارسل وبعث في آيات كثيرة من القرآنالعزيز فراجعها، فتلخص مما ذكرنا أن الرسول والنبي صفتان لشخص النبي والرسول من حيث أخذ الوحي وكيفيته، وأما كونه مرسلا ومبعوثا فهو مرتبة متأخرة عن ذلك وهي مرحلة التبليغ والبشارة والانذار قال تعالى حكاية عن عيسى بن مريم: " إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا " مريم: ٣٠ إن عيسى (ع) حين تكلم في المهد كان نبيا وحجة الله على خلقه ولم يكن مرسلا فلا مناص من التفكيك بين المقامين: مقام النبوة والرسول ومقام الارسال والبعث.
فإذا لاحظنا هذا التفكيك بين المقامين يظهر لنا أن متعلق الأمنية في كلامه تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " إنما هو فعل أرسل لا الرسول ولا النبي في الآية الكريمة ومرحلة الارسال هو إصلاح الناس بالابشار والانذار في شؤون حياتهم الدينية والاجتماعية، وما من نبي ولا رسول إلا يتمنى فلاح قومه ورجوعهم عن غيهم وضلالهم.
وإلقاء الشيطان في أمنيته، هو بأن يوسوس في قلوب المخاطبين فيحرك الجبابرة وأعوانهم على عداوته فينسخ الله ما يلقي الشيطان من قلوب المؤمنين فلا تقبله، ولا تصغي إليه غير قلوب المنافقين والجاحدين كما قال تعالى:
" إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " حجر: ٤٢، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم (٥٢) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق (٥٣) وليعلم الذين أتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم " الحج ٥٤ بأن يحمي أولياءه من الضلال والعدوان: ومتابعة الكفر والطغيان الذين لم يرض أن يجعلهم كالأنعام حتى قال لمن تبع أهل الكفر والعناد " أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " الأعراف:
١٧٩.
وأيضا: أن آية التمني هي آية ٥٢ من سورة الحج التي هي مدنية بالاتفاق إلى أنها نزلت بعد الحجر بعدة سنين، وجعل قضية الغرانيق التي زوروها كانت بعد البعثة بخمس سنين وينطبق قبل الهجرة لا بعدها.
فائدة: إن الأنبياء يأخذون الوحي ويحفظونه ويميزون كلام الله من غيره بالقدرة المفاضة من الله العزيز الحكيم مما هو حقيق بمنصبهم الإلهي كما قال الله تعالى " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي على صراط مستقيم " الشورى: ٥٢ فعير فيها عن هذه القدرة المفاضة من عنده تعالى بالروح وسماها أئمة أهل البيت (ع) في الأحاديث الواردة في تفسيرها وموارد أخرى ب (الروح القدس) فبهذا الروح يسددهم ويوفقهم بالخيرات ويبعدهم عما يوجب الطعن في الروح الإنسانية من ارتكاب القبايح والمعاصي عمدا أو سهوا أو خطأ وعن كلما يوجب نقصا في الروح الانساني مع القرآن الكريم.
وقد عقد البخاري في صحيحه ج 4 ص 231 بابا بهذا العنوان: (كان النبي صلى الله عليه وآله تنام عينه ولا ينام قلبه وروى فيه النبي صلى الله عليه وآله تنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك سائر الأنبياء (ع) تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم وروى أحمد بن حنبل في مسنده في موارد منها ج 1 ص 220 والله الهادي.