بالضرورة، فقالوا: إن الوجود علة في كون الشئ مرئيا (1)، فجوزوا رؤية كل موجود سواء كان في حيز أو لا، وسواء كان مقابلا أو لا، فجوزوا إدراك الكيفيات النفسانية، كالعلم، والإرادة، والقدرة، والشهوة، واللذة، وغير النفسانية مما لا يناله البصر كالروايح والطعوم، والأصوات، والحرارة، والبرودة، وغيرهما من الكيفيات الملموسة.
ولا شك في أن هذا مكابرة للضروريات، فإن كل عاقل يحكم بأن الطعم إنما يدرك بالذوق لا بالبصر، والروايح إنما تدرك بالشم لا بالبصر، والحرارة وغيرها من الكيفيات الملموسة إنما تدرك باللمس لا بالبصر، والصوت إنما يدرك بالسمع لا بالبصر، ولهذا فإن فاقد البصر يدرك هذه الأعراض.. ولو كانت مدركة بالبصر لاختل الادراك باختلاله، وبالجملة فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك، وإن من شكك فيه فهو سوفسطائي.
ومن أعجب الأشياء تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء، مع عدم الحايل السابق، وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر، وهل هذا إلا عدم تعقل من قائله؟.
هل يحصل الادراك لمعنى في المدرك البحث السادس: في أن الادراك ليس لمعنى.
والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا، لزمهم بواسطته إنكار الضروريات. فإن العقلاء بأسرهم قالوا: " إن صفة الادراك تصدر عن كون الواحد منا حيا لا آفة به ".
والأشاعرة قالوا: إن الادراك إنما يحصل لمعنى حصل في المدرك، فإن حصل ذلك المعنى للمدرك حصل الادراك، وإن فقدت جميع الشرائط،