أصلا كما فعله القدماء من الأصحاب، فإنهم لم يفتحوا هذا الباب، واكتفوا من العلل بالجمع بين الفرع والأصل بوصف جامع كيف كان، وأخرجوا المعترض إلى إفساده بالنقض أو الفرق أو المعارضة، لان إضافة وصف آخر من الأصل إلى ما جعله علة الأصل وإبداء ذلك في معرض قطع الجمع أهون من تكليف إقامة الدليل على كونه مغلبا على الظن، فإن ذلك يفتح طريق النظر في أوصاف الأصل، والمطالبة تحسم سبيل النظر، وترهق إلى ما لا سبيل فيه إلى إرهاق الخصم وإفحامه، والجدل شريعة وضعها الجدليون فليضعوها على وجه هو أقرب إلى الانتفاع فإن قيل: وضعها كذلك يفتح باب الطرديات المستقبحة، وذلك أيضا شنيع، قلنا:
الطرد الشنيع يمكن إفساده على الفور بطريق أقرب من المطالبة فإنه إذا علل الأصل بوصف مطرد يشمل الفرع فيعارض بوصف مطرد يخص الأصل ولا يشمل الفرع، فيكون ذلك معارضة الفاسد بالفاسد، وهو مسكت معلوم على الفور، والاصطلاح عليه كما فعله قدماء الأصحاب أولى، بل لا سبيل إلى الاصطلاح على غيره لمن يقول بالشبه، فإن لم يستحسن هذا الاصطلاح فليقع الاصطلاح على أن يسير المعلل أوصاف الأصل ويقول: لا بد للحكم من مناط، وعلامة ضابطة، ولا علة ولا مناط إلا كذا وكذا، وما ذكرته أولى من غيره أو ما ذكرته فهو منقوض وباطل، فلا يبقى عليه سؤال إلا أن يقول: مناط الحكم في محل النص الاسم أو المعنى الذي يخص المحل كقوله: الحكم في البر معلوم باسم البر فلا حاجة إلى علامة أخرى، وفي الدراهم والدنانير معلوم بالنقدية التي تخصها، أو يقول مناط الحكم وصف آخر لا أذكره، ولا يلزمني أن أذكره، وعليك تصحيح علة نفسك، وهذا الثاني مجادلة محرمة محظورة، إذ يقال له: إن لم يظهر لك إلا ما ظهر لي لزمك ما لزمني بحكم استفراغ الوسع في السبر، وإن ظهر لك شئ آخر يلزمك التنبيه عليه بذكره حتى أنظر فيه فأفسده أو أرجح علتي على علتك، فإن قال: هو اسم البر أو النقدية فذلك صحيح مقبول، وعلى المعلل أن يفسد ما ذكره بأن يقول: ليس المناط اسم البر بدليل أنه إذا صار دقيقا أو عجينا أو خبزا دام حكم الربا وزال اسم البر، فدل أن علامة الحكم أمر يشترط فيه هذه الأحوال من طعم أو قوت أو كيل. والقوت لا يشهد له الملح، فالطعم الذي يشهد له الملح أولى، والكيل ينبئ عن معنى يشعر بتضمن المصالح بخلاف الطعم. فهكذا نأخذ من الترجيح ونتجاذب أطراف الكلام، فإذا الطريق إما اصطلاح القدماء وإما الاكتفاء بالسبر، وإما إبطال القول بالشبه رأسا والاكتفاء بالمؤثر الذي دل النص أو الاجماع أو السبر القاطع على كونه مناطا للحكم ويلزم منه أيضا ترك المناسب، وإن كان ملائما، فكيف إذا كان غريبا فإن للخصم أن يقول: إنما غلب على ظنك مناسبته من حيث لم تطلع على مناسبة أظهر وأشد إخالة مما اطلعت عليه، وما أنت إلا كمن رأى إنسانا أعطى فقيرا شيئا فظن أنه أعطاه لفقره، لأنه لم يطلع على أنه ابنه ولو اطلع لم يظن ما ظنه وكمن رأى ملكا قتل جاسوسا فظن أنه قتله لذلك، ولم يعلم أنه دخل على حريمه وفجر بأهله ولو علم لما ظن ذلك الظن، فإن قبل من المتمسك بالمناسب أن يقول: هذا ظني بحسب سبري وجهدي واستفراغ وسعي، فليقبل ذلك من المشبه بل من الطارد ويلزم إبداء ما هو أظهر منه حتى يمحق ظنه. وهذا تحقيق قياس الشبه وتمثيله ودليله.