الحائط المنقوش، وله حد آخر، وعلى الانسان الميت وله حد آخر، فإن اليد المقطوعة، والذكر المقطوع، يسمى ذكرا، وتسمى يدا، ولكن بغير الوجه الذي كانت تسمى به حين كانت غير مقطوعة، فإنها كانت تسمى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع، وبعد القطع تسمى به من حيث أن شكلها شكل آلة البطش، حتى لو بطل بالتقطيعات الكثيرة شكلها سلب هذا الاسم عنها، ولو صنع شكلها من خشب أو حجر أعطي الاسم، وكذلك إذا قيل: ما حد العقل؟ فلا تطمع في أن تحده بحد واحد، فإنه هوس، لان اسم العقل مشترك، يطلق على عدة معان، إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية، ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الانسان لدرك العلوم النظرية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلا، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة، عن الهدو، فيقال: فلان عاقل، أي في هدو، وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم حتى أن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلا فلا يقال للحجاج عاقل بل داه، ولا يقال للكافر عاقل، وإن كان محيطا بجملة العلوم الطبية والهندسية، بل إما فاضل وإما داه وإما كيس، فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود، فيقال في حد العقل باعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية، كجواز الجائزات واستحالة المستحيلات كما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله، وبالاعتبار الثاني أنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات، وهكذا بقية الاعتبارات. فإن قلت: فنرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الاختلاف في الحد، أترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء؟ فاعلم أن الاختلاف في الحد يتصور في موضعين: أحدهما: أن يكون اللفظ في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله (ص)، أو قول إمام من الأئمة يقصد الاطلاع على مراده به، فيكون ذلك اللفظ مشتركا، فيقع النزاع في مراده به، فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل، والتباين بعد التوارد، فالخلاف تباين بعد التوارد، وإلا فلا نزاع بين من يقول السماء قديمة، وبين من يقول: الانسان مجبور على الحركات، إذ لا توارد، فلو كان لفظ الحد في كتاب الله تعالى، أو في كتاب إمام، لجاز أن يتنازع في مراده، ويكون إيضاح ذلك من صناعة التفسير لا من صناعة النظر العقلي. الثاني: أن يقع الاختلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حده أمرا ثانيا لا يتحد حده على المذهبين فيختلف، كما يقول المعتزلي، حد العلم اعتقاد الشئ على ما هو به، ونحن نخالف في ذكر الشئ، فإن المعدوم عندنا ليس بشئ وهو معلوم، فالخلاف في مسألة أخرى يتعدى إلى هذا الحد، وكذلك يقول القائل: حد العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا وكذا، و يخالف من يقول في حده إنه غريزة يتميز بها الانسان عن الذئاب وسائر الحيوانات، من حيث إن القائل الأول ينكر تميز العين بغريزة عن العقب، وتميز الانسان بغريزة عن الذئاب بها يتهيأ للنظر في العقليات، لكن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم في القلب دون العقب، وفي الانسان دون الذئاب، وخلق البصر في العين دون العقب، لا لتميزه بغريزة استعد بسببها لقبوله، فيكون منشأ الاختلاف في الحد الاختلاف في إثبات هذه الغريزة أو نفيها، فهذه أمور، وإن أوردناها في
(٢٠)