ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين وما يؤديه كل واحد منهم قليل، بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الاسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة الشرور، وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة، فإن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية، وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه، وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس لكن هذا تصرف في الأموال، والأموال مبتذلة، يجوز ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها، وإنما لمحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك، فإن قيل: فبأي طريق بلغ الصحابة حد الشرب إلى ثمانين، فإن كان حد الشرب مقدرا، فكيف زادوا بالمصلحة، وإن لم يكون مقدرا وكان تعزيرا فلم افتقروا إلى الشبه بحد القذف؟ قلنا: الصحيح أنه لم يكن مقدرا، لكن ضرب الشارب في زمان رسول الله (ص) بالنعال وأطراف الثياب، فقد ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين، فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا، والتعزيرات مفوضة إلى رأي الأئمة، فكأنه ثبت الاجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل لهم، اعملوا بما رأيتموه أصوب، بعد أن صدرت الجناية الموجبة للعقوبة، ومع هذا، فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله (ص) إلا بتقريب من منصوصات الشرع، فرأوا الشرب مظنة القذف، لان من سكر هذى ومن هذى افترى، ورأوا الشرع يقيم مظنة الشئ مقام نفس الشئ، كما أقام النوم مقام الحدث وأقام الوطئ مقام شغل الرحم، والبلوغ مقام نفس العقل، لأن هذه الأسباب مظان هذه المعاني، فليس ما ذكروه مخالفة للنص بالمصلحة أصلا، فإن قيل: فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالاشخاص، مثل المفقود زوجها إذا اندرس خبر موته وحياته وقد انتظرت سنين وتضررت بالعزوبة أيفسخ نكاحها للمصلحة أم لا؟ وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين أحدهما سابق واستبهم الامر ووقع اليأس عن البيان بقيت المرأة محبوسة طول العمر عن الأزواج ومحرمة على زوجها المالك لها في علم الله تعالى؟ وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها عشر سنين وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد بالأشهر أو تكتفي بتربص أربع سنين؟ وكل ذلك مصلحة ودفع ضرر، ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا؟ قلنا: المسألتان الأوليان مختلف فيهما، فهما في محل الاجتهاد، فقد قال عمر:
تنكح زوجة المفقود بعد أربع سنين من انقطاع الخبر، وبه قال الشافعي في القديم، وقال في الجديد، تصبر إلى قيام البينة على موته أو انقضاء مدة يعلم أنه لا يعيش إليها، لأنا إن حكمنا بموته بغير بينة فهو بعيد إذ لا تدارس الاخبار أسباب سوى الموت، لا سيما في الخامل الذكر النازل القدر، وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس على منصوص، والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من اعسار وجب وعنة، فإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطئ، وذلك في الحضرة لا يؤثر، فكذلك في الغيبة، فإن قيل: سبب الفسخ دفع الضرر عنها ورعاية جانبها، فيعارضه أن رعاية جانبه أيضا مهم ودفع الضرر عنه واجب، وفي تسليم زوجته إلى غيره في غيبته، ولعله محبوس أو مريض معذور إضرار به، فقد تقابل الضرران، وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن، فليس تصفو هذه المصلحة عن معارض، وكذلك