العبث بوضعهما، إذ وضع أمارة لا يمكن العمل بها عبث، والعمل بإحداهما دون الأخرى ترجيح من غير مرجح.
وجوزه قوم وهو الأقرب، والحكم هنا التخيير أيضا. ولا يلزم من التخيير بين أمارة الوجوب والإباحة الإباحة، لأن المجتهد إن أخذ بأمارة الإباحة ثبت في حقه [وإن أخذ بأمارة الوجوب ثبت في حقه] (1) كالمسافر إذا حصل في مكان يتخير فيه بين الإتمام والقصر، فإن صلى بنية القصر سقط عنه وجوب الركعتين، وإن صلى تاما كان واجبا. وكمن عليه درهمان إذا قال له المالك: إن دفعت إلي الدرهمين فلي الأخذ، وإن دفعت إلي أحدهما أسقطت الآخر عنك (2) انتهى كلامه.
أقول: تحرير محل النزاع أن تعادل الأمارتين إما في حال من أحوال متعلقات حكم الله تعالى، مثلا حكم الله تعالى وجوب التوجه إلى الكعبة وتعادل الأمارتين في أن الكعبة في الجنوب أو في الشمال. وإما في نفس حكم الله تعالى، مثلا: الوتر واجب أو غير واجب. فاتفق الأصوليون على جواز التعادل في الصورة الأولى، واختلفوا في جوازه في الصورة الثانية، فقال بعضهم: لا يجوز تبليغ الشريعة إلى العباد تبليغا ينتهي وصول أمارتين متعادلتين في حكم من أحكامه تعالى، لأ نه يلزم أحد المحذورات المذكورة والحق هذا المذهب كما سيجيء بيانه في كتابنا هذا.
وأما ما قد يتفق من تعادل الحديثين في بعض أبواب الفقه فهو من باب ضرورة التقية، ومحل النزاع أنه إذا لم يكن ضرورة كيف يكون الأمر؟
ثم ذكر: إذا عرفت هذا، فإن عرض التساوي للمجتهد تخير، وإن كان للمفتي خير المستفتي، وإن كان للحاكم عين ما شاء وله الحكم بإحداهما في وقت والأخرى في آخر لشخصين. وإن تعارض الدليلان فإما أن يكونا ظنيين فالحق الترجيح بينهما فيعمل بالراجح، وإلا لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو باطل، وإن أمكن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه تعين. وإما أن يكونا يقينيين فالتعارض بينهما محال، إلا أن يكون أحدهما قابلا للتأويل بالآخر بحيث يمكن