متشابهة، فكيف - والحال هذه - يليق بالحكيم أن ينزل الكتاب الذي هو مصدر الأحكام والتشريع، ومرجع العقائد والآداب، من يومه إلى يوم الدين، بهذا الحال المضطرب؟ وكان الواجب في الحكمة أن يجعله واضحا جليا ليحق الحق ويبطل الباطل، فلا يكون بما له من الصراحة مستمسك للباطل بوجه من الوجوه.
أجيب عن ذلك بوجوه:
الأول: أنه متى كانت المتشابهات في القرآن كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب، قال الله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * (1).
الوجه الثاني: أن القرآن لو كان كله محكما بالكلية لما كان مطابقا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلا لما سوى ذلك المذهب، وكان مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل حيث كان مشتملا على المحكم وعلى المتشابه، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ويؤيد رأيه، فحينذاك ينظر فيها جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله، ويصل إلى الحق والحقيقة.
الوجه الثالث: أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه، افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص من ظلمة التقليد ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية،