وبإجماعهم تمسكنا في هذه القواعد، وأما العموم والمفهوم وصيغة الامر فقلما خاضوا في هذه المسائل بتجريد النظر فيما خوض الأصوليين، ولكن كانوا يتمسكون في مناظراتهم بالعموم والصيغة، ولم يذكروا أنا نتمسك بمجرد الصيغة من غير قرينة بل كانت القرائن المعرفة للأحكام المتقرنة بالصيغ في زمانهم غضة طرية متوافرة متظاهرة، فما جردوا النظر في هذه المسائل، كيف وقد قال بعض الفقهاء: ليس في هذه المسائل سوى خبر الواحد وأصل القياس والاجماع أدلة قاطعة، بل هي في محل الاجتهاد، فمن سلك هذا الطريق اندفع عنه الاشكال، وإن لم يكن هذا مرضيا عند المحققين من الأصوليين، فإن هذه أصول الاحكام فلا ينبغي أن تثبت إلا بقاطع، لكن الصحابة لم يجردوا النظر فيها، وبالجملة من اعتقد في مسألة دليلا قاطعا فلا يسكت عن تعصية مخالفة، وتأثيمه كما سبق في حق الخوارج والروافض والقدرية.
الاعتراض الرابع: قولهم إن ما ذكرتموه نقل للحكم بالظن والاجتهاد، فلعلهم عولوا فيه على صيغة عموم وصيغة أمر، واستصحاب حال ومفهوم لفظ، واستنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين وخبرين، وصحة رد مقيد إلى مطلق، وبناء عام على خاص وترجيح خبر على خبر وتقرير على حكم العقل الأصلي، وما جاوز هذا كان اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم لا في تنقيحه واستنباطه، والحكم إذا صار معلوما بضابط، فتحقيق الضابط في كل محل يحتاج إلى اجتهاد لا ننكره، فقد علموا قطعا أنه لا بد من إمام وعلموا أن الأصلح ينبغي أن يقدم وعرفوا بالاجتهاد الأصلح إذ لا بد منه ولا سبيل إلى معرفته إلا بالاجتهاد، وعرفوا أن حفظ القرآن عن الاختلاط والنسيان واجب قطعا، وعلموا أنه لا طريق إلى حفظه إلا الكتبة في المصحف، فهذه أمور علقت على المصلحة نصا وإجماعا، ولا يمكن تعيين المصلحة في الاشخاص وا لأحوال إلا بالاجتهاد، فهو من قبيل تحقيق المناط للحكم وما جاوز هذا من تشبيه مسألة بمسألة واعتبارها بها، كان ذلك في معرض النقض بخيال فاسد لا في معرض اقتباس الحكم، كقول ابن عباس في دية الأسنان: كيف لم يعتبروا بالأصابع، إذ عللوا اختلاف دية الأسنان باختلاف منافعها، وذلك منقوض بالأصابع ونحن لا ننكر أن النقض من طرق إفساد القياس وإن كان القياس فاسدا بنفسه أيضا وكذلك قول علي أيضا: أرأيت لو اشتركوا في السرقة حيث توقف عمر عن قتل سبعة بواحد، فإنه لما تخيل كون الشركة مانعا بنوع من القياس نقضه علي بالسرقة فإذا ليس في شئ مما ذكرتموه ما يصحح القياس أصلا. والجواب: أن هذا اعتراف بأنه لا حاجة في الحكم إلى دليل قاطع وأن الحكم بالظن جائز والانصاف الاعتراف بأنه لو لم يثبت إلا هذا النوع من الظن، لكنا لا نقيس ظن القياس على ظن الاجتهاد في مفهوم الألفاظ وتحقيق مناط الاحكام إذ يجوز أن يتعبد بنوع من الظن دون نوع ولكن بان لنا على القطع أن اجتهاد الصحابة لم يكن مقصورا على ما ذكروه بل جاوزوا ذلك إلى القياس والتشبيه، وحكموا بأحكام لا يمكن تصحيح ذلك إلا بالقياس تعليل النص وتنقيح مناط الحكم، وذلك كعهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما، فإنه قاس العهد