والنافي للنظر وحجج العقول، كالنافي لعلوم وصحة وقوع العلم بالأخبار. لا فرق بين شئ من ذلك، لأن الله تعالى: (قد جعل ذلك في طباع العقلاء، كما جعل في طباعهم الحواس وسماع الأخبار).
فإن قال قائل من الحمق: إنما قلت بالتقليد اتباعا للسلف، لأنهم أمرونا بالاتباع، ونهونا عن الابتداع واتباع الرأي.
قيل له: أول ما في هذا، أنه تخرص على السلف، لأنهم قد استعملوا النظر والرأي في حوادث (1) أمورهم، ولا يجهل ذلك إلا من كان في غاية الجهل والغباوة، (2) واحسب: أنا قد سلمنا لك ما ادعيته على السلف. فخبرنا من أين ثبت عندك لزوم تقليد السلف فيما ذكرت؟
فإن قال: لأني قد علمت: أنهم لا يجمعون على خطأ. قيل: ومن أين ثبت عندك صحة الكتاب (والسنة)؟ (3) فلا تجد بدا من الرجوع إلى إثبات النظر وحجج العقول، لأن بها تثبت النبوات (4) بالدليل، والأعلام المعجزة التي لا يقدر عليها أحد غير الله تعالى، ومن كان هذا سبيله فهو لم يقل بالتقليد، لأنه إنما قال بتقليد السلف إذا أجمعوا على شئ، لأن الدلائل قد قامت على صحة إجماعهم، فهو مما اتبع الدلائل، وفي ذلك إثبات النظر وإبطال التقليد الذي لم تقم على صحته دلالة.
وقد أكد الله عز وجل ما في العقول من نفي التقليد وإثبات (النظر، بما نص عليه في كتابه من الأمر بالنظر والاستدلال فقال: (واعتبروا (5) يا أولي الأبصار)، (6) والاعتبار هو: (7) النظر والاستدلال. وقال: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (8) وقال تعالى: (أقلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (9) وقال تعالى: (أفلا يتدبرون