عن ذلك بقوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (1) وقال تعالى: (وأن (2) تقولوا على الله مالا تعلمون) (3).
وأيضا: فإنك إذا قلدت من لا تعلم صحة قوله، فقد جعلت منزلته أعلى من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وأولى بالسلامة من الخطأ، لأن الله تعالى لم يوجب اتباع الأنبياء إلا بعد إظهار الأعلام المعجزة على أيديهم، وجعلها حجة على صحة دعواهم، فكان عليك في هذا أمران:
أحدهما: أنك جعلت منزلة من قلدته بغير دلالة، أعلى من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يجب اتباعه إلا بعد إقامة الدلالة على صحة قوله - فمن دونه أولى أن لا يقبل قوله بغير دلالة.
ومما يبين لك صحة حجج العقول: أن كل عاقل فهو يجد نفسه يفزع إلى النظر واستعمال العقل فيما ليس طريق معرفته الحس والخبر، كما يجدها تفزع إلى الحواس فيما طريق معرفته الحس، وإلى الاستخبار فيما طريق معرفته الخبر. فلولا أن النظر سبب يتوصل به إلى علوم عقلية - لما كانت تفزع إليه في ذلك، كما لا تفزع فيما ليس طريق معرفته الذوق إلى الشم، ولا فيما طريق معرفته السماع إلى الذوق، وإنما تفزع في طلب (4) معرفة الطعوم إلى الذوق، وفي طلب معرفة الألوان إلى البصر، وفيما طريق معرفته السمع إلى الاستماع، فثبت بذلك: أن النظر في طبع الإنسان، كالحس، قد جعله الله تعالى عيارا (5) وسببا إلى الوصول إلى معرفة أمور به تدرك.
ألا ترى أن أحدا من العقلاء، لا يخلو من ذلك فيما ينوبه من أمر دينه ودنياه، حتى العامي الغفل الذي لم يتقدم له طلب العلوم والآداب، يفزع إلى النظر واستعمال العقل فيما ينوبه من أمر دنياه، كما يفزع إلى الحس فيما طريق معرفته الحس، وإلى الخبر فيما (طريق معرفته) (6) الخبر.