والدليل على ذلك: أنه لما خلقها ليستدل بها المكلفون كان لهم الاستدلال بها، وهي ضرب من الانتفاع، كذلك سائر ما يتأتى لهم فيها من وجوه الانتفاع، ينبغي أن يجوز لهم إتيانها.
دليل آخر، وهو: أنا لما وجدنا السماوات والأرض وأنفسنا دلائل على الله تعالى، ولا دلالة فيها على تحريم الانتفاع بهذه الأشياء، لأنها لو كانت دالة على حظرها لما جاز ورود الشرع (1) بإباحتها، لأن موجب دلائل الله تعالى لا ينقلب، فعلمنا: أنه لا دلالة فيها على حظرها. ولو كانت محظورة لما أخلاها من دليل يوجب حظرها، وقبح مواقعتها، فدل ذلك على أنها مباحة، وأنه لا تبعة على فاعليها، لأن ما كان على الإنسان من (2) فعله تبعة - فغير جائز أن يخليه الله تعالى من إقامة الدليل على أن عليه فيه تبعة، لينتهي عنه، هذا حكم العقل و (قد) (3) أكد السمع هذا المعنى (بقوله تعالى): (4) (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم) (5) الآية. فأخبر أن ما لم يدل على تحريمه فلا تبعة على فاعله.
دليل آخر: وهو أن الأشياء التي وصفنا أمرها لا يخلو من أن تكون مباحة على ما بينا.
أو محظورة، (6) أو بعضها محظور، وبعضها مباح. وغير جائز أن يقال: جميعها، لأنه يوجب أن يكون محظورا على الإنسان: الحركة، والسكون، والقيام، والقعود، والاضطجاع، وأن يكون مأمورا بأن: (7) يخلو من جميع أفعاله، فلما استحال ذلك علمنا: أن بعضها مباح، ثم البعض الآخر لا يخلو من (8) أن يكون مباحا أو محظورا، فلو كان محظورا لوجب أن يكون هناك دليل يتميز به من المباح، فلما عدمنا الدليل على ذلك: علمنا أن البعض مساو للمباح (في باب فقد الدليل على حظره وما ساوى المباح) (9) في هذا الوجه فهو مباح. فثبت: أن الجميع مباح.