وأيضا: فإن في حظر هذه الأشياء تكليفا ومشقة تدخل على النفس، وغير جائز للإنسان إدخال الضرر والمشقة على نفسه، من غير اجتلاب نفع، ولا دليل في العقل يوجب ذلك، فقبح إلزامه ذلك.
وأيضا: فإن تكليف الفرض لطف من الله تعالى في التمسك بما في المعقول إيجابه، ومن أجله حسن إيجابها، وما كان هذا سبيله فغير جائز أن يخليه الله تعالى من إقامة دليل على لزوم اجتنابه، إن كان محظورا. فدل على (أن) (1) ما كان هذا وصفه مما لم يرد السمع بإيجابه وحظره فهو مباح.
وأيضا فإن في ترك الإقدام على الأكل والشرب تلف النفس، وذلك قبيح إذا لم يؤد إلى نفع هو أعظم من الضرر اللاحق به، فلما لم يعلم: أن له نفعا في تركه، لم يجزله تركه.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون في العقل دلالة على حظر هذه الأشياء قبل مجئ السمع، وهي: (2) أن هذه الأشياء ملك الله تعالى، وفي عقل كل عاقل: أنه لا يجوز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه.
قيل له: ليس الانتفاع بملك الغير بغير إذنه محظورا لعينه، لأنه جائز له الانتفاع بملك الغير بغير إذنه إذا لم يكن عليه فيه ضرر، نحو: أن يستظل بظل حائطه، ويقعد في ضوء سراجه، ويسرج منه لنفسه، فلما كان ذلك ضربا من الانتفاع بملك الغير ولم يكن قبيحا من أجل وقوعه بغير إذن مالكه - علمنا أن: الانتفاع بملك الغير يجوز (3) بغير إذنه، فالمستدل على حظر ذلك لأجل كونه ملكا للغير، وأنه ينتفع به بغير إذنه مخطئ.
فقد سقط هذا السؤال من هذا الوجه، ونقول مع ذلك: إن حكم هذه الأشياء في جواز الانتفاع بها قبل مجئ السمع حكم (انتفاع الواحد) (4) منا بظل حائط غيره، وبضوء سراجه، والاستصباح منه، وذلك لأن الله تعالى المالك لهذه الأشياء لا يلحقه الضرر (5) بانتفاع المنتفع منا بها، ولا ضرر يلحقنا بها أعظم مما نرجوه من النفع، لأنه لو كان علينا فيه