وأما من قال: إني لا أقول: إنها مباحة، ولا محظورة، لأن الإباحة تقتضي مبيحا، والحظر يقتضي حاظرا، فإنه إنما منع إطلاق لفظ الإباحة (والحظر) (1) ووافق في المعنى، حين قال: لا تبعة على فاعلها، لأن هذا هو صورة المباح، إذا لم يستحق بفعله الثواب، ويلزمه (2) أن يمتنع من أن يقول في شئ من الأشياء: إنه واجب، قبل مجئ السمع، من نحو الإيمان بالله، وشكر المنعم، ووجوب الإنصاف، (وأن لا يقول: إن الكفر بالله والظلم والكذب محظور، قبل مجئ السمع، لأن الوجوب يقتضي موجبا، والحظر يقتضي حاظرا.
فإن قال: الموجب لاعتقاد الإيمان، والحاظر لاعتقاد الكفر: هو الله تعالى، الذي أقام الدليل على ذلك.
قيل له: فهلا قلت مثله في هذه الأشياء قبل مجئ السمع؟ لأن المبيح هو الله عز وجل الذي خلقها) (3) للانتفاع بها، ثم لم يقم الدليل على حظرها.
فإن قال: لو كان ما لا تبعة على فاعله مباحا، لوجب أن تكون الأشياء مباحة للبهائم، والمجانين، والساهي.
قيل له: لا يجب ذلك لأنا قد قلنا: إن حد المباح ما لا تبعة على فاعله من المكلفين، ويكون فيما ذكرت، لأنهم غير مكلفين، والساهي فعله غير واقع عن قصده.
قال أبو بكر: وجميع ما قدمناه إنما هو كلام في حكم هذه الأشياء في العقل قبل مجئ السمع، ثم جاء السمع بتأكيد ما كان في العقل إباحته، وهو: قوله تعالى (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) (4) وقال: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) (5) وقال تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (6) وقال تعالى: (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره) (7) وقال تعالى: (والنخل