دقيقة، يتعرف بها البارعون في الفقه مواطن الضعف، والنتوء في كثير من الروايات، فيرجعون الحق إلى نصابه بعد مضاعفة النظر في ذلك، ولهم أيضا مدارك أخرى في علل الحديث دقيقة، لا ينتبه إليها دهماء النقلة، وللعمل المتوارث عندهم شان يختبر به صحة كثير من الاخبار، وليس هذا الشأن بمختص بعمل أهل المدينة، بل الأمصار التي نزلها الصحابة وسكنوها، ولهم بها أصحاب، وأصحاب أصحاب. سواءا في ذلك - وفى رسالة لليث إلى مالك، ما يشير إلى ذلك -. ومن القواعد المرضية، عند أبي حنيفة أيضا اشتراط استدامة الحفظ من آن التحمل إلى آن الأداء، وعدم الاعتداد بالحفظ، إذا لم يكن الراوي ذاكرا لمرويه، كما في " الالماع " - للقاضي عياض.
وغيره، وكذلك اقتصار تسويغ الرواية بالمعنى على الفقيه، مما يراه أبو حنيفة حتما. ومن قواعدهم أيضا مراعاة مراتب الأدلة في الثبوت، والدلالة، فللقطعي ثبوتا. أو دلالة مرتبته، وللظني كذلك حكمة عندهم، فلا يقبلون خبر الآحاد إذا خالف الكتاب، ولا يعدون بيان المجمل به في شئ من المخالفة للكتاب، فلا يكون بيان المجمل بخبر الآحاد في الأمور المحتمة التي تعم بها البلوى، وتتوفر فيها الدواعي إلى نقلها بطريق الاستفاضة، حيث يعدون ذلك مما تكذبه شواهد الحال، واشتراط شهرة الخبر عند طوائف الفقهاء.
ويقول ابن رجب: إن أبا حنيفة يرى أن الثقات إذا اختلفوا في خبر، زيادة، أو نقصا، في المتن، أو السند، فالزائد مردود إلى الناقص، إلى غير ذلك من قواعد رصينة، أقاموا الحجج على كل منها، في كتب الأصول المبسوطة. فمن يقبل الحديث عن كل من دب وهب، في عهد ذيوع الفتن، وشيوع الكذب، بنص الرسول صلوات الله عليه، يظن بهم أنهم يخالفون الحديث، لكن الامر ليس كذلك، بل عمدتهم الآثار في التأصيل، والتفريع، كما يظهر ذلك لمن أحسن البحث، ووفق للإجادة في المقارنة والموازنة، من غير أن يستسلم للهوى، والتقليد الأعمى، والله سبحانه هو الموفق.
منزلة الكوفة من علوم الاجتهاد ولابد هنا من استعراض ما كانت عليه الكوفة، من عهد بنائها إلى زمن أبي حنيفة، ليعلم من لا يعلم وجه امتيازها عن باقي الأمصار، في تلك العصور، حتى أصبحت مشرق الفقه الناضج، المتلاطم الأنوار، فأقول: لا يخفى أن المدينة المنورة زادها الله تشريفها - كانت مهبط الوحي، ومستقر جمهرة الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أي أواخر عهد ثالث الخفاء الراشدين، خلا الذين رحلوا إلى شواسع البلدان للجهاد، ونشر الدين، وتفقيه المسلمين، ولما ولى الفاروق رضي الله عنه، وافتتح العراق في عهده. بيد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أمر عمر ببناء الكوفة، فبنيت، سنة 17