العباد والبلاد إلا عليها. فاختر للقضاء بين الناس أفضل رعيتك (1) في نفسك، أجمعهم للعلم والحلم والورع، ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه (2) الخصوم ولا يضجره على العى ولا يفرطه جور الظلوم، ولا تشرف نفسه على الطمع (3) ولا يدخله إعجاب ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه، أوقفهم عند الشبهة، وآخذهم لنفسه بالحجة، وأقلهم تبرما (4) من تردد الحجج، وأصبرهم على تكشف الأمور وإيضاح الخصمين (5). لا يزدهيه الاطراء. ولا يشليه (6) الاغراء، ولا يأخذ فيه التبليغ بأن يقال قال فلان وقال فلان. (7) فول القضاء من كان كذلك، ثم أكثر تعاهد أمره (8) وقضاياه، وابسط عليه من البذل ما يستغنى به عن الطمع، وتقل به حاجته إلى الناس، واجعل له منك منزلة (9) لا يطمع فيها غيره حتى يأمن من اغتياب الرجال إياه عندك. فلا يحابى أحدا للرجاء ولا يصانعه لاستجلاب حسن الثناء، وأحسن توقيره في مجلسك (10)، وقربه منك ونفذ قضاياه، وأمضها واجعل له أعوانا يختارهم لنفسه (11) من أهل العلم والورع، واختر لاطرافك قضاة تجهد فيهم نفسك على قدر ذلك، ثم تفقد أمورهم وقضاياهم، وما يعرض لهم من وجوه الأحكام، ولا يكن في حكمهم اختلاف، فإن ذلك ضياع للعدل، وعورة في الدين وسبب للفرقة. وإنما تختلف القضاة لاكتفاء كل امرئ منهم برأيه دون الامام، فإذا اختلف قاضيان فليس لهما أن يقيما على اختلافهما في الحكم، دون رفع ما اختلفا فيه من ذلك إلى الامام، وكل ما اختلف فيه الناس فمردود إليه، ولا قوة إلا بالله.
(٣٦٠)