ولم يكن أحد من هؤلاء (1) ومن تقدمهم من أسلافهم إلا وهو يقول القول ويرجع عنه إلى غيره حتى مات على ذلك، وفى ذلك دليل على أنه لو عاش (2) لرجع عن كثير مما مات عليه، والعامة الجهال على هذا متمسكون بهم ومقلدون لهم، لا يرى الواحد منهم إذا انتحل قول أحدهم الرجوع عنه، بل يرى من خالفه على ضلالة، ويعدون ما ذكرناه عنهم من الجهل مناقب لهم وهي لهم مثالب ومعايب، ولو وفقوا لانتقادها، وعوار قولهم فيها.
وهم يروون عن مالك أنه كان يرى رأى الخوارج، وأنه سئل عنهم فقال:
ما عسى أن نقول في قوم ولونا فعدلوا فينا.
وأن الشافعي، وهو أحد من روى عنه، وهو عندهم بالمكان من المعرفة والتمييز (3)، قال: ما كان يحل لمالك أن يفتى.
ولما تحفظ الشافعي ومن ذهب إلى مذهبه عند أنفسهم مما أثبتنا فساده من تقليد من لم يوجب الله عز وجل تقليده، سقطوا في شر من ذلك بل لم يخرجوا عنه، فقالوا: نحن لا نقلد أحدا، ولكنا نأخذ من قول كل قائل بما (4) ثبت، وندع من قوله ما فسد (5)، فإن كانوا قد أخذوا ما أخذوا عنه بتقليد. فلم يخرجوا عن التقليد، ومن فسد من قوله شئ لم يجب أن يأخذ عنه غيره، وإن لم يقلدوهم شيئا، وإنما قالوا: أخذنا من قولهم ما رأيناه نحن يثبت، فقد صاروا إلى تقليد أنفسهم، ووجب على غيرهم أن لا يأخذ عنهم شيئا كما أوجبوه هم (6)، وكان (7) اعتمادهم على اتباع أهوائهم، ولو وسع في ذلك لاحد لوسع لأنبياء الله، قال الله عز وجل في محمد رسوله (صلعم): (8) وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى.