مطلب مهم فيما يفعله التجار من دفع ما يسمى سوكرة وتضمين الحربي ما هلك في المركب وبما قررناه يظهر جواب ما كثر السؤال عنه في زماننا: وهو أنه جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبا من حربي يدفعون له أجرته، ويدفعون أيضا مالا معلوما لرجل حربي مقيم في بلاده، يسمى ذلك المال: سوكرة، على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم، وله وكيل عنه مستأمن في دارنا، يقيم في بلاد السواحل الاسلامية بإذن السلطان، يقبض من التجار مال السوكرة، وإذا هلك من مالهم في البحر شئ يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تماما، والذي يظهر لي: أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله، لان هذا التزام ما لا يلزم.
فإن قلت: إن المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت. قلت: ليست مسألتنا من هذا القبيل، لان المال ليس في يد صاحب السوكرة، بل في يد صاحب المركب، وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أجيرا مشتركا قد أخذ أجرة على الحفظ وعلى الحمل، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت والغرق ونحو ذلك.
فإن قلت: سيأتي قبيل باب كفالة الرجلين قال لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلك وأخذ ماله لم يضمن، ولو قال: إن كان مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن: ضمن، وعلله الشارح هناك بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا اه: أي بخلاف الأولى، فإنه لم ينص على الضمان بقوله: فأنا ضامن، وفي جامع الفصولين: الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعاوضة، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور فيصار كقول الطحان لرب البر:
جعله في الدلو فجعله فيه، فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالما به يضمن، إذ غره في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة اه.
قلت: لا بد في مسألة التغرير من أن يكون الغار عالما بالخطر كما يدل عليه مسألة الطحان المذكورة وأن يكون المغرور غير عالم، إذ لا شك أن رب البر لو كان عالما بنقب الدلو يكون هو المضيع لما له باختياره، ولفظ المغرور ينبئ عن ذلك لغة لما في القاموس: غيره غرا وغرورا فهو مغرور وغرير: خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو اه. ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار، ولا يعلم بحصول الغرق هل يكون أم لا. وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار، لأنهم لا يعطون مال السوكرة عند شدة الخوف طمعا في أخذ بدل الهالك، فلم تكن مسألتنا من هذا القبيل أيضا، نعم: قد يكون للتاجر شريك حربي في بلاد الحرب، فيعقد شريكه هذا العقد مع صاحب السوكرة في بلادهم، ويأخذ منه بدل الهالك ويرسله إلى التاجر، فالظاهر أ هذا يحل للتاجر أخذه لأن العقد الفاسد جرى بين حربيين في بلاد الحرب، وقد وصل إليه مالهم برضاهم فلا مانع من أخذه، وقد يكون التاجر في بلادهم، فيعقد معهم هناك، ويقبض البدل في بلادنا أو بالعكس، ولا شك أنه في الأولى إن حصل بينهما خصام في بلادنا لا نقضي للتاجر بالبدل، وإن لم يحصل خصام ودفع له البدل وكيله المستأمن هنا يحل له أخذه، لأن العقد الذي صار في بلادهم لا حكم له، فيكون قد أخذ مال حربي برضاه. وأما في صورة العكس، بأن كان العقد