أقول: إن هذا الاشكال إنما يتم بناءا على أن للعقل مسرحا في إدراك المصالح والمفاسد، فمن لا يعترف بذلك - كالأشعرية - فهو في راحة من هذا الاشكال على أشكال، أما من يعترف بذلك كالعدلية - من الإمامية والمعتزلة - فمن يرى منهم أن الحسن والقبح في الأشياء ليس بذاتي، إنما هو بالوجوه والاعتبارات، والنسب والإضافات، فهو أيضا في راحة من هذا الإشكال، والجواب الذي ذكرناه الآن ينطبق على رأيه وفكرته، لكن من يرى أن المصلحة والمفسدة أو الحسن والقبح في الأشياء ذاتية لها وإنما حكم الشرع كاشف عن تلك المفاسد والمصالح والمحاسن والقبائح التي هي ذاتية في الأشياء، فهو في قلق من هذا الإشكال، لأن الذاتي لا يختلف ولا يختلف عليه مكان أو زمان أو أشخاص أو أحوال لكن ما يهون الأمر أن هذا القول لم يذهب إليه إلا الأقلاء.
نعم، قد يجاب عن هذا الإشكال - حتى بناءا على هذا الرأي -: بأننا لا نفسر النسخ بأنه: رفع الحكم الثابت بدليل بحكم آخر ثابت بدليل، لأن ما ثبت لا يمكن رفعه بناءا على هذا الرأي، بل نفسر النسخ بأنه: انتهاء أجل الحكم المؤقت بوقت خاص لشخص مخصوص. فعلى هذا لا يكون النسخ رفعا للحكم وإنما هو انقضاء عمر الحكم الذي أنشئ مؤجلا بأجل خاص لشخص مخصوص، وفي النفس شئ من هذا الجواب، والأولى أن نذهب مذهب من يذهب إلى أن المصالح والمفاسد اعتباريات في الأشياء لا ذاتيات.
وأجيب عن الثاني: بالمنع من صحة هذا الخبر، فإنه مختلق اختلقه لهم ابن الراوندي، وعلى تقدير تسليم صحته - تنزلا - نمنع من تواتره، بل هو من الآحاد المفيدة للظن، وهذه المسألة من مسائل الاعتقاد التي يشترط فيها العلم، فالظن فيها غير كاف ولا مفيد، ودليل كون هذا الخبر غير متواتر أنهم كانوا مجتمعين في الشام