وهنا وعند الفراغ من هذه النظرة التي وقفت فيها من الجواب على عين الصواب، ألق نظرة أخرى على قوله تعالى - حكاية عن موسى (عليه السلام) -: * (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) * (1) وقال تعالى في موضع آخر: * (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) * (2). فحينذاك سنراك تقول: إنه كيف وصف العصا بالثعبان، ثم وصفها بالجان، والثعبان: الحية العظيمة الخلقة، والجان الصغير من الحيات، وهذا جمع بين وصفين متضادين، وهذا هو التناقض الظاهر بكل وضوح؟
إن قلت هذا فسنقول لك: من أعلمك أن الآيتين وقعتا خبرا عن قصة واحدة؟
ليس الأمر كذلك، بل الحالتان مختلفتان، فالحال التي أخبر فيها تعالى أن العصا فيها بصفة الجان كانت في ابتداء النبوة وقبل مصير موسى إلى فرعون، والحال التي صارت فيها العصا ثعبان كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة، فعند هذا - وعلى هذا الوجه - يرتفع التناقض بين الآيتين لاختلاف الزمن، واختلاف الزمن شرط من شروط التناقض، فلا تناقض هناك.
ثم إن قوما من المفسرين تعاطوا الجواب عن هذا السؤال على وجه آخر، إما ظنا منهم بأن القصة واحدة في زمن واحد، أو لاعتقادهم أن العصا الواحدة لا يجوز أن تنقلب في حالين: تارة إلى صفة الجان، وتارة إلى صفة الثعبان، أو قصدا منهم إلى الاستظهار في الحجة والامعان في الدليل، فأجابوا بوجهين:
أحدهما: أنه تعالى شبه العصا بالثعبان في إحدى الاثنين لعظم خلقها، وكبر جسمها، وهول منظرها، وشبهها في الآية الأخرى بالجان لسرعة حركتها ونشاطها