نفيا وسبعين سنة من عمره ما يسأل أهله غذاء ولا عشاء، بل إن جاءه شئ أكله وإلا طوى إلى الليلة القابلة. وذكر أنه أنفق في بعض الرماضانات على نفسه وعياله درهما واحدا وأربعة دوانيق ونصف، وما كنا نعرف من هذه الطبائخ شيئا إنما هو باذنجان مشوي أو باقة فجل أو نحو هذا، وقد بعث إليه أمير المؤمنين المعتضد في بعض الأحيان بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها وردها، فرجع الرسول وقال يقول لك الخليفة: فرقها على من تعرف من فقراء جيرانك. فقال: هذا شئ لم نجمعه ولا نسأله عن جمعه، فلا نسأل عن تفريقه، قل لأمير المؤمنين إما يتركنا وإما نتحول من بلده. ولما حضرته الوفاة دخل عليه بعض أصحابه يعوده فقامت ابنته تشكو إليه ما هم في من الجهد وأنه لا طعام لهم إلا الخبز اليابس بالملح، وربما عدموا الملح في بعض الأحيان. فقال لها إبراهيم يا بنية تخافين الفقر؟ انظري إلى تلك الزاوية فيها اثنى عشرة ألف جزء قد كتبتها، ففي كل يوم تبيعي منا جزء بدرهم فمن عنده اثني عشر ألف درهم فليس بفقير. ثم كانت وفاته لسبع بقين من ذي الحجة وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي عند باب الأنبار، وكان الجمع كثرا جدا.
المبرد النحوي محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس الأزدي الثمالي المعروف بالمبرد النحوي البصري إمام في اللغة والعربية، وأخذ ذلك عن المازني وأبي حاتم السجستاني، وكان ثقة ثبتا فيما ينقله وكانا مناوئا لثعلب وله كتاب الكامل في الأدب وإنما سمي بالمبرد لأنه اختبأ من الوالي عند أبي حاتم تحت المزبلة.
قال المبرد: دخلنا يوما عل المجانين نزورهم أنا وأصحاب معي بالرقة فإذا فيهم شاب قريب العهد بالمكان عليه ثياب ناعمة فلما بصر بنا قال حياكم الله ممن أنتم؟ قلنا من أهل العراق. فقال: بأبي العراق وأهلها أنشدوني أو أنشدكم؟ قال المبرد: بل أنشدنا أنت فأنشأ يقول:
الله يعلم أنني كمد * لا أستطيع بث ما أجد روحان لي روح تضمنها * بلد وأخرى حازها بلد وأرى المقيمة ليس ينفعها * صبر ولا يقوى لها جلد وأظن غائبتي كحاضرتي * بمكانها تجد الذي أجد قال المبرد فقلت: والله إن هذا طريف فزدنا منه فأنشأ يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم * وحموها فثارت بالهواى الإبل وأبرزت من خلال السجف ناظرها * ترنوا إلى ودمع العين ينهمل وودعت ببنان عقدها عنم * ناديت لا حملت رجلاك يأجمل ويلي من البين ماذا حل بي وبهم * من نازل البين حان البين وارتحلوا يا راحل العيس عجل كي أودعهم * يا راحل العيس في ترحالك الاجل