ثم دخل على أهله يستكشف خبرها من امرأته، فإذا بها قد هيئت له، فلما رآها على؟ الصفة فرح فرحا شديدا إذ وجدها كذلك من أجل سيدها الأول، الذي تشفع فيه صاحبه. فأخرجها معه وهو يظهر السرور، وامرأته تظن أنه إنما أخذها ليطأها، فأتى بها إلى ذلك الرجل بحليها وزينتها، فقال له: هذه جاريتك؟ فلما رآها على تلك الصفة في ذلك الحلي والزينة مع الحسن الباهر اضطرب كلامه واختلط في عقله مما رأى من حسن منظرها وهيئتها. فقال: نعم. فقال: خذها بارك الله لك فيها.
ففرح الفتى بها فرحا شديدا. وقال سيدي تأمر بمن يحمل ثمنها إليك؟ فقال: لا حاجة لنا بثمنها، وأنت في حل منه أنفقه عليك وعليها، فإني أخشى أن تفتقر فتبيعها لمن لا يردها عليك. فقال:
يا سيدي وهذا الحلي والمصاغ الذي عليها؟ فقال: هذا شئ وهبناه لها لا نرجع فيه ولا يعود إلينا أبدا، فدعا له واشتد فرحه بها جدا وأخذها وذهب. فلما أراد أن يودع ابن أبي حامد قال ابن أبي حامد للجارية: أيما أحب إليك نحن أو سيدك هذا؟ فقالت: أما أنتم فقد أحسنتم إلى وأعنتموني فجزاكم الله خيرا، وأما سيدي هذا فلو أني ملكت منه ما ملك مني لم أبعه بالأموال الجزيلة ولا فرطت فيه أبدا.
فاستحسن الحاضرون كلامها وأعجبهم ذلك من قولها، مع صغر سنها.
شغب أم أمير المؤمنين المقتدر بالله الملقبة بالسيدة كان دخلها من أملاكها في كل سنة ألف ألف دينار، فكانت تتصدق بأكثر ذلك على الحجيج في أشربة وأزواد وأطباء يكونون معهم، وفي تسهيل الطرقات والموارد. وكانت في غاية الحشمة والرياسة ونفوذ الكلمة أيام ولدها، فلما قتل كانت مريضة فزادها قتله مرضا إلى مرضها، ولما استقر أمر القاهر في الخلافة وهو ابن زوجها المعتضد وأخو ابنها المقتدر، وقد كانت حضنته حين توفيت أمه وخلصته من ابنها لما أخذت البيعة بالخلافة له ثم رجع ابنها إلى الخلافة، فشفعت في القاهر وأخذته إلى عندها، فكانت تكرمه وتشتري له الجواري، فلما قتل ابنها وتولى مكانه طلبها وهي مريضة فعاقبها عقوبة عظيمة جدا، حتى كان يعلقها برجليها ورأسها منكوس، فربما بالت فيسيل البول على وجهها، ليقررها على الأموال فلم يجد لها شيئا سوى ثيابها ومصاغها وحليها في صناديقها. قيمة ذلك مائة ألف دينار، وثلاثون ألف دينار، وكان لها غير ذلك أملاك أمر ببيعها وأتي بالشهود ليشهدوا عليها بالتوكيل في بيعها، فامتنع الشهود من الشهادة حتى ينظروا إليها ويحلوها، فرفع الستر بإذن الخليفة فقالوا لها: أنت شغب جارية المعتضد أم جعفر المقتدر؟ فبكت بكاء طويلا ثم قالت: نعم، فكتبوا حليتها عجوز سمراء اللون دقيقة الجبين. وبكى الشهود وتفكروا كيف يتقلب الزمان بأهله، وتنقل الحدثان وأن الدنيا دار بلاء لا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، من ركن إليها أحرقته بنارها. ولم يذكر القاهر شيئا من إحسانها إليه رحمها الله وعفا عنها. توفيت في جمادى الأولى من هذه السنة، ودفنت بالرصافة.