حكمتموه فقضى بينكم * أبلج مثل القمر الزاهر لا يقبل الرشوة في حكمه * ولا يبالي غبن الخاسر (1) فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك، ولست أغتر بما قلت. وأما أنا فإني ما جلست مجلسي هذا حتى قرأت (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [الأنبياء: 47] قال: فبكى الناس حوله فما رئي أكثر باكيا من ذلك اليوم. وقال بعضهم: سرد المهتدي الصوم من حين تولى إلى حين قتل رحمه الله.
وكان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز الأموي في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه، وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة. وقال أحمد بن سعيد الأموي: كنا جلوسا بمكة وعندي جماعة ونحن نبحث في النحو وأشعار العرب، إذ وقف علينا رجل نظنه مجنونا فأنشأ يقول:
أما تستحيون الله ما معدن النحو * شغلتم بذا والناس في أعظم الشغل إمامكم أضحى قتيلا مجندلا * وقد أصبح الاسلام مفترق الشمل وأنتم على الاشعار والنحو عكفا * تصيحون بالأصوات في أحسن السبل قال فنظر وأرخنا ذلك اليوم فإذا المهتدي بالله قد قتل في ذلك اليوم، وهو يوم الاثنين لأربع عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين.
خلافة المعتمد على الله وهو أحمد بن المتوكل على الله ويعرب بابن فتيان (2)، بويع بالخلافة يوم الثلاثاء لثلاث (3) عشرة ليلة خلت من رجب في هذه السنة في دار الأمير يارجوخ وذلك قبل خلع المهتدي بأيام (4)، ثم كانت بيعة العامة يوم الاثنين لثمان مضت من رجب، قيل ولعشرين بقين من رجب دخل موسى بن بغا ومفلح إلى سر من رأى فنزل موسى في داره وسكن وخمدت الفتنة هنالك، وأما صاحب الزنج المدعي أنه علوي فهو محاصر للبصرة والجيوش الخليفية في وجهه دونها، وهو في كل يوم يقهرهم ويغنم أموالهم وما يفد إليهم في المراكب من الأطعمة وغيرها، ثم استحوذ بعد ذلك على الأبلة وعبادان وغيرهما من البلاد وخاف منه أهل البصرة خوفا شديدا، وكلما لامره في قوة وجيوشه في زيادة، ولم يزل ذلك دأبه إلى انسلاخ هذه السنة.
.