شرابه، فلما مثل بين يديه أجله وأعظمه وأجلسه إلى جانبه وناوله الكأس الذي في يده فقال: يا أمير المؤمنين لم يدخل باطني ولم يخالط لحمي ودمي قط، فاعفني منه. فأعفاه ثم قال له: أنشدني شعرا فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا نادى بهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل؟
أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد طال ما أكلوا دهرا وما لبسوا (1) * فأصبحوا بعد طول الاكل قد أكلوا قال: فبكى المتوكل حتى بل الثرى، وبكى من حوله بحضرته، وأمر برفع الشراب وأمر له بأربعة آلاف دينار، وتحلل منه ورده إلى منزله مكرما رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين فيها كانت وقعة بين مفلح وبين الحسن بن زيد الطالبي فهزمه مفلح ودخل آمل طبرستان وحرق منازل الحسن بن زيد ثم سار وراءه إلى الديلم. وفيها كانت محاربة شديدة بين يعقوب بن الليث وبين علي بن الحسين بن قريش بن شبل، فبعث علي بن الحسين رجلا من جهته يقال له طوق بن المغلس، فصابره أكثر من شهر ثم ظفر يعقوب بطوق فأسره فأسر وجوه أصحابه، ثم سار إلى علي بن الحسين هذا فأسره وأخذ بلاده - وهي كرمان - فأضافها إلى ما بيده من مملكة خراسان سجستان (2): ثم بعث يعقوب بن الليث بهدية سنية إلى المعتز: دواب وبازات وثياب فاخرة. وفيها ولى الخليفة سليمان بن عبد الله بن طاهر نيابة بغداد والسواد في ربيع الأول (3) منها. وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز والحسن بن مخلد كاتب قبيحة أم المعتز وأبا نوح عيسى بن إبراهيم، وكانوا قد تمالؤا على أكل بيت المال، وكانوا دواوين وغيرهم، فضربهم وأخذ خطوطهم بأموال جزيلة يحملونها، وذلك بغير رضى من المعتز في الباطن واحتيط على أموالهم حواصلهم وضياعهم وسموا الكتاب الخونة وولى الخليفة عن قهر غيرهم.
.