قدم المعز بعد ذلك ومعه جحافل من الجيوش، وأمراء من المغاربة والأكابر، وحين نزل الإسكندرية تلقاه وجوه الناس فخطبهم بها خطبة بليغة ادعى فيها أنه ينصف المظلوم من الظالم، وافتخر فيها بنسبه وأن الله قد رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهرا وباطنا كما قاله القاضي الباقلاني إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه، قبحهم الله وإياه. وقد أحضر إلى بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي، فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين بسهم، فقال: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله فقال: كيف قلت؟ قال: قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر. قال: ولم؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم. فأمر بإشهاره في أول يوم ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضربا شديدا مبرحا ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجئ بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله.
فكان يقال له الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من أهل نابلس إلى اليوم، ولم تزل فيهم بقايا خير، وقد كان المعز قبحه الله فيه شهامة وقوة حزم وشدة عزم، وله سياسة، وكان يظهر أنه يعدل وينصر الحق ولكنه كان مع ذلك منجما يعتمد على حركات النجوم، قال له منجمه: إن عليك قطعا - أي خوفا - في هذه السنة فتوار عن وجه الأرض حتى تنقضي هذه المدة. فعمل له سردابا وأحضر الأمراء وأوصاهم بولده نزار ولقبه العزيز وفوض إليه الامر حتى يعود إليهم، فبايعوه على ذلك، ودخل المعز ذلك السرداب فتوارى فيه سنة فكانت المغاربة إذا رأوا سحابا ترجل الفارس منهم له عن فرسه وأومأ إليه بالسلام ظانين أن المعز في ذلك الغمام، (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) [الزخرف: 54] ثم برز إليهم بعد سنة وجلس في مقام الملك وحكم على عادته أياما، ولم تطل مدته بل عاجله القضاء المحتوم، ونال رزقه المقسوم، فكانت وفاته في هذه السنة، وكانت أيامه في الملك قبل أن يملك مصر وبعد ما ملكها ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام (1)، منها بمصر سنتان وتسعة أشهر والباقي ببلاد المغرب، وجملة عمره كلها خمسة وأربعون سنة وستة أشهر، لأنه ولد بإفريقية (2) في عاشر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة وكانت وفاته بمصر في اليوم السابع عشر (3) من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة وهي هذه السنة.
ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة فيها توفي ركن الدولة بن علي بن بويه وقد جاوز التسعين (4) سنة، وكانت أيام ولايته نيفا .