الذهب والفضة يوم دخل بخارى عائدا إلى أهله، وكان له مجلس يجلس فيه للاملاء بجامعها فلم يقبلوا من الأمير، فأمر عند ذلك بنفيه من تلك البلاد فخرج منها ودعا خالد بن أحمد فلم يمض شهر حتى أمر ابن طاهر بأن ينادى على خالد بن أحمد على أتان، وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات، ولم يبق أحد يساعده على ذلك إلا ابتلى ببلاء شديد، فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها خرتنك على فرسخين من سمرقند، فنزل عند أقارب له بها (1) وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، لما جاء في الحديث: " وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين " (2). ثم اتفق مرضه على إثر ذلك. فكانت وفاته ليلة عيد الفطر - وكان ليلة السبت - عند صلاة العشاء، وصلى عليه يوم العيد بعد الظهر من هذه السنة - أعني سنة ست وخمسين ومائتين - وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، وفق ما أوصى به، وحين ما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك ثم دام ذلك أياما ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره. وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة. وقد ترك رحمه الله بعده علما نافعا لجميع المسلمين، فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع علمه إلا من ثلاث، علم ينتفع به " (3) الحديث رواه مسلم وشرطه في صحيحه هذا أعز من شرط كل كتاب صنف في الصحيح، لا يوازيه فيه غيره، لا صحيح مسلم ولا غيره. وما أحسن ما قاله بعض الفصحاء من الشعراء:
صحيح البخاري لو أنصفوه * لما خط إلا بماء الذهب هو الفرق بين الهدى والعمى * هو السد بين الفتى والعطب أسانيد مثل نجوم السماء * أمام متون لها كالشهب بها قام ميزان دين الرسول * ودان به العجم بعد العرب حجاب من النار لاشك فيه * يميز بين الرضى والغضب وستر رقيق إلى المصطفى * ونص مبين لكشف الريب فيا علما أجمع العالمون * على فضل رتبته في الرتب سبقت الأئمة فيما جمعت * وفزت على زعمهم بالقصب نفيت الضعيف من الناقلين * ومن كان متهما بالكذب وأبرزت في حسن ترتيبه * وتبويبه عجبا للعجب فأعطاك مولاك ما تشتهيه * وأجزل حظك فيما وهب