الاستدلال مبنيا (1) على علوم الاضطرار، فمن جحد علم الاضطرار فإنما يحتاج إلى تقدير ما جحده، مما لا يشك هو ولا واحد من الناس في مكابرته، ودفع ما لا يعلمه ضرورة، كما نتكلم في دفع علوم الخبر في المشاهدات، إذ لا فرق في عقول الناس جميعا كاملهم وناقصهم وذكيهم وغبيهم، بين ما علموه وتقرر في عقولهم: أنه قد كان في الدنيا ناس قبلنا، وأن السماء قد كانت موجودة قبل ولادتنا، وأنه قد كان لنا أجداد وملوك (قبل) (2) وجودنا، ولا سبيل إلى العلم بذلك إلا من طريق الخبر، ومن أراد أن يشكك نفسه في ذلك، كان كمن رام تشكيكها في وجود نفسه، ووجود ما نشاهده ونحسه، ألا ترى أن المميز وغير المميز يستوي في العلم بذلك.
وأنا ذاكر: أن علمنا ذلك في حال صبانا بكون السماء موجودة قبل وجودنا، وأنه قد كان قبلنا في هذه الدنيا ناس مثلنا، (3) وتكون البلدان الفانية والأمم السالفة كعلمنا الآن بها، (4) وكعلمنا بالأمور المشاهدة، والأشياء المحسوسة.
وقد ذكر أهل العلم فيما أفسدوا به قول هذه الطائفة: أنهم وسائر العقلاء متى أرادوا الخروج إلى خراسان، قصدوا إلى ناحية المشرق، وإذا أرادوا مصرا خرجوا إلى ناحية المغرب، فلو لم يكن العلم بكون خراسان ناحية المشرق، وكون مصر ناحية المغرب قد تقرر في نفوسهم، وتواترت الأخبار عليهم تقريرا لا يستطيعون دفعه، ولا تشكيك أنفسهم فيه، كيف كان يجوز لهم التغرير بأنفسهم وأموالهم لشئ لا يعلمون حقيقته (5)، ثم لا يختلف في ذلك المميز وغيره من سائر الناس ولا يخطر لهم فيه خواطر، ولا تعتريهم الشكوك، ولا يقع بينهم فيه خلاف، فعلمنا بذلك: أن الجميع قد علموا صحة ذلك من جهة الأخبار التي ثارت إليهم، من جهة من لا يجوز عليهم الغلط و الشهود، ولا الاتفاق والتواطؤ.
فإن قال قائل: إنما يقصدون سمت الشرق إذا أرادوا خرسان، وسمت المغرب إذا