ولو جاز ذلك، لجاز أن يقال في قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (1) وقوله تعالى: (كتب عليكم الصيام) (2) وقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) (3) إنه مخصوص به أهل المدينة دون غيرهم، فلما بطل هذا لأن عموم اللفظ لم يفرق بينهم وبين غيرهم، كذلك حكم الآيات الموجبة لصحة الإجماع، لما كانت مبهمة، لم يجز لأحد الاقتصار بها على أهل المدينة دون غيرهم، ولو جاز لقائل أن يخص بها أهل المدينة، لجاز لغيره أن يخص بها أهل الكوفة دون من سواهم، فلما لم يجز تخصيص أهل الكوفة فيما تضمنته هذه الآيات كان كذلك حكم أهل المدينة فيها.
وأيضا: فلو كان إجماعهم هو المعتبر في كونه حجة، لما خفى أمره على التابعين ومن بعدهم، فلما لم نر أحدا من تابعي أهل المدينة ومن غيرهم (4) وممن جاء بعدهم، دعا سائر الأمصار (5) إلى اعتبار إجماع أهل المدينة ولزوم اتباعهم. دل ذلك: على أنه قول محدث، لا أصل له عن أحد من السلف، بل إجماع السلف من أهل المدينة وغيرهم ظاهر في تسويغ (6) الاجتهاد لأهل سائر الأمصار معهم، وأجازوا لهم مخالفتهم إياهم.
فقد حصل من إجماع السلف من أهل المدينة وغيرهم بطلان قول من اعتبر إجماع أهل المدينة.
وأيضا: فلو كان إجماع أهل المدينة حجة، لوجب أن يكون حجة في سائر الأعصار، كما أن إجماع الأمة لما كان حجة لم يختلف حكمه في سائر الأزمان في كونه حجة، ولو كان كذلك لوجب اعتبار إجماع أهل المدينة في هذا الوقت، ومعلوم: أنهم في هذا الوقت أجهل الناس، وأقلهم علما، وأبعدهم من كل خير.
فإن قيل: إنما يعتبر الآن إجماع من يتفقه على مذهب أهل المدينة وهم: أصحاب مالك ابن أنس.