منتقى الأصول - تقرير بحث الروحاني ، للحكيم - ج ٦ - الصفحة ٣٨٠
عليه الراجع إلى التعبد بالحدوث لما عرفت من كون التعبد بالبقاء. وليست بالاستصحاب بالمعنى المتداول لدى الأصحاب، بل هي شاملة لبعض موارد قاعدة اليقين والاستصحاب بمعناهما الاصطلاحي وموارد الاخبار لا تأبى من الحمل على هذا المعنى لتحقق اليقين السابق والشك اللاحق فيها. والقرينة على ما ادعيناه من الظهور أمران:
أحدهما: التعبير في بعض نصوص الباب بقوله: " لأنك كنت على يقين " أو: " من كان على يقين فشك " فان هذا التعبير صريح في كون الموضوع هو اليقين السابق لا اليقين الفعلي.
والاخر: إسناد النقض إلى الشك، فإنه ظاهر في فرض كون الشك مما يحتمل فيه أن يكون ناقضا لليقين حتى يصح النهي عنه. ومن الواضح أن هذا إنما يتأتى في الشك اللاحق لليقين لأنه رافع لاستمرار اليقين وقاصم لوحدته الاستمرارية. وأما الشك المقارن لليقين فلا موهم. لكونه ناقضا كيف؟
والمفروض اجتماعهما في آن واحد، وبعبارة أخرى: إن اجتماع اليقين والشك لا يمكن تعقله إلا بتقيد متعلق اليقين بالزمان السابق فيتيقن بالعدالة السابقة بما هي كذلك ويشك في العدالة الفعلية، ولا يخفى أن الشك المزبور لا يتوهم كونه ناقضا لليقين المزبور لاختلاف المتعلقين، وبواسطة ذلك ترفع اليد عن ظهور لفظ " اليقين " أو قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " في كون المدار على اليقين الفعلي قياسا على سائر الموضوعات.
والخلاصة: إن الاخبار ظاهرة في تقوم التعبد بسبق اليقين ولحوق الشك ولا صارف لظهورها في ذلك.
ونتخلص بذلك عن اللجوء إلى دعوى إرادة المتيقن من لفظ اليقين التي يشكل تصويرها وإثباتها لأنها متفرعة على اعتبار اليقين الفعلي الذي لا يصح إسناد النقض عليه - فراجع ما تقدم في صحيحة زرارة الأولى تعرف -.
ومن هنا يظهر اندفاع إشكال المعارضة بين القاعدة والاستصحاب الذي بنى عليه الشيخ، فإنه متفرع عن اعتبار اليقين الفعلي في باب الاستصحاب فيتحقق موضوعه بالفعل لليقين بالفعل بعدم عدالته في الزمان السابق على اليقين به مع تحقق موضوع القاعدة كما هو المفروض فيتعارضان.
أما على ما اخترناه من اعتبار اليقين السابق في الاستصحاب والشك الذي يتوهم نقضه به فلا موضوع له لان انتقاض اليقين السابق بالشك يتقوم باتصال زمان اليقين بزمان الشك، والمفروض عدمه لتخلل اليقين بالعدالة بينهما، فيكون ناقضا لليقين السابق بعدم العدالة، فلا يكون الشك الفعلي ناقضا لليقين الأسبق بعدم العدالة بل يكون ناقضا لليقين بالعدالة فيكون المورد من موارد قاعدة اليقين فقط.
نعم الشك الفعلي مجتمع مع اليقين الفعلي بعدم عدالة زيد سابقا، ولكن عرفت أنه ليس موضوع الاستصحاب.
ويتضح من مجموع ما ذكرناه: أنه لا اشكال على ما قررناه من دلالة الاخبار على القاعدتين بالشكل الذي عرفته لا من ناحية الثبوت ولا من ناحية الاثبات.
وهذا الوجه لم يعهد من أحد الالتزام به بل التنبه إليه، فتدبره فإنه بالتدبر حقيق.
ثم إنه قد يشكل ما قررناه بأنه يقتضي سد باب الاستصحاب في كثير من موارد الشبهات الحكمية بالنسبة إلى المجتهد، بيان ذلك: إن سيرة المجتهدين قائمة على إجراء الاستصحاب عند الشك في سعة الحكم الكلي الإلهي وضيقه سواء تعلق الحكم به أم بمقلديه كما لو شك في بقاء نجاسة الماء المتعين إذا زال تغيره من قبل نفسه، أو شك في استمرار خيار الغبن أو فوريته، ونحو ذلك، من غير فرق بين أن يكون موضوع الحكم فعليا كما لو كان لديه ماء متغير أو لم يكن فعليا بل فرضيا، فإنه يجري الاستصحاب ويفتي على طبقه بالفعل، ويعمل به مقلدوه، ولو لم يحصل لديهم يقين وشك في ظرفه.
وقد وجه ذلك بان يقينه وشكه بمنزلة يقينهم شكهم وهذا التنزيل تقتضيه أدلة الافتاء.
وقد تعرضنا لبيان الاشكال وحله - بصورة مفصلة - في أول مبحث القطع.
ولا يخفى أن هذا يبتني على فرض موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي فان المجتهد يحصل لديه يقين بالفعل بنجاسة الماء عند تغيره وشك في بقائها على تقدير زوال التغير، فهو يجري الاستصحاب بلحاظ حالة التغير وزوالها.
وأما بناء على اعتبار اليقين السابق والشك اللاحق، فيشكل الامر في مثل هذه الاستصحابات، لعدم الترتب الزماني بين اليقين والشك بالنسبة إلى المجتهد، بل اليقين والشك يحصلان دفعة بل قد يتقدم الشك على اليقين، وأما المقلد فالمفروض أنه غافل عن هذه الخصوصيات. فكيف يفتي المجتهد له بل لنفسه بنجاسة الماء المتغير إذا زال عنه التغير استنادا إلى الاستصحاب؟ مع عدم تحقق موضوعه لا عنده ولا عند مقلده.
وهذا الاشكال لا محيص عنه ولكنه لا يختص بالمبنى الذي قربناه بل يعم المبنى الاخر، فلا يصح إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم الكلي إذا لم يتحقق موضوعه بالفعل حتى على الالتزام بان موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث والشك في البقاء لوجوه:
الأول: إن اليقين بالحكم على تقدير حصول موضوعه كاليقين بالخيار على تقدير تحقق البيع الغبني، مرجعه في الحقيقة إلى اليقين الفعلي بالملازمة بين الموضوع والحكم، وأما الحكم فليس بمتيقن بالفعل لا بوجوده المطلق ولا بوجوده الخاص المقيد بالموضوع، إذ قد لا يحصل الموضوع بل قد يكون ممتنعا - كما في مثل: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا - فكيف يكون الحكم متيقنا؟ والملازمة ليست مجرى الاستصحاب لأنها غير مشكوكة البقاء وإنما الشك في سعة اللازم - وهو الحكم - وضيقه، مع أنها ليست بامر شرعي.
الثاني: إن الحكم الاستصحابي كسائر الاحكام له مقام جعل ومقام فعلية. والأول: متحقق بانشائه، والثاني: يتحقق بفعلية موضوعه وهو اليقين والشك، ومقتضى ذلك أنه لو حصل اليقين والشك لزم أن يكون الحكم الاستصحابي فعليا، وبعبارة أخرى: إن الاستصحاب في مقام تطبيقه يلزم أن يكون فعليا.
وعليه نقول: إن مؤدى الاستصحاب هو استمرار الحكم الثابت، ومن الواضح أن فعلية الاستمرار فرع فعلية الحدوث، ففي ظرف تطبيق المجتهد الاستصحاب لتحقق موضوعه لديه لا يكون الحكم فعليا إذ لا معنى للحكم الفعلي بالاستمرار فلا معنى لفعلية الاستصحاب، وفي الظرف القابل للاستمرار قد يكون المجتهد غافلا بل قد يكون ميتا فلا يقين ولا شك حينئذ. فلا يصح جريان الاستصحاب.
الثالث: إن الاستصحاب يعتبر في تطبيقه الاستمراري استمرار موضوعه أعني: اليقين والشك - فلا يكفي حدوثهما في إجراء الاستصحاب إلى الأبد، وعليه يقال: إن اليقين والشك الحاصلين للمجتهد عند تصديه للاستنباط إما أن لا يستمر إلى ظرف فعلية الحكم أو يكونا مستمرين. وعلى كلا التقديرين لا جدوى في الاستصحاب الفعلي.
أما على الأول: فواضح لان انتقاض اليقين والشك في ظرف العمل يستلزم انتفاء الحكم الاستصحابي حينئذ ويكون الحكم الاستصحابي السابق لغوا محضا سواء كان دليل الاستصحاب يتصدى لجعل المنجزية والمعذرية أو يتصدى لجعل الحكم المماثل، إذ لا معنى للتنجيز السابق للحكم الذي يرتفع في ظرف العمل ومثله الحكم المماثل السابق لأنه بلحاظ الطريقية إلى الواقع. فيكون المورد من قبيل جعل الحكم الفعلي قبل ظرف العمل ثم رفعه في ظرف العمل. فان ذلك لغو محض.
وأما على الثاني: فلا مقتضي لاجراء الاستصحاب من حين حدوث اليقين والشك بل يجري في ظرف العمل، لعدم الفائدة في أجراءه السابق. وبعبارة مختصرة: إنه لا أثر عملي للتنجيز السابق على ظرف العمل، بل المدار على ظرفه فاما أن يكون موضوع الحكم الظاهري متحققا فهو أو غير متحقق فيتعبد به على الأول دون الثاني.
وبهذا الوجوه: تعرف أن إشكال امتناع المجتهد عن إجراء الاستصحاب في موارد عدم فعلية الموضوع لا يختص بالمبنى الذي قربناه بل يعم المبنى المشهور المعروف، فالتفت.
وعلى هذا فلا نرى وجها صالحا لرفع اليد عن ظهور النصوص فيما عرفت وهو سبحانه ولي التسديد في القول والعمل.