الحكمة خرج من باب العبث وإذا كان له وجوه أخر كان يجوز أن يقصد، وليس كذلك الفعلان، لأ نه إذا قصد وجه الحكمة في أحدهما بقي الآخر خاليا من ذلك وكان عبثا، وليس كذلك الفعل الواحد على ما بيناه.
فإن قيل: الانتفاع بالاعتبار بالطعوم لا يمكن إلا بعد تناولها، لأن الطعم ليس مما يدرك بالعين فينتفع به من هذه الجهة، فإذا لابد من تناوله حتى يصح الاعتبار به.
قيل: الاعتبار يمكن بتناول القليل منه وهو قدر ما يمسك الرمق ويبقى معه الحياة، وقد بينا أن ذلك القدر في حكم المباح، وليس الاعتبار موقوفا على تناول شيء كثير من ذلك. ويمكن أن يقال أيضا: إنه يصح أن يعتبر بها إذا تناولها غير المكلف من سائر أجناس الحيوان، فإنه إذا شاهد أجناس الحيوان تتناول تلك الأشياء ويصلح عليها أجسامها أو ينفسد بحسب اختلافها واختلاف طبائعها جاز معه أن يعتبر بذلك وإن لم يتناولها المكلف أصلا.
وبمثل هذا أجاب المخالف من قال: نحن لا نفرق بين السموم والأغذية، بأن قال: يرجع إلى حال الحيوانات التي ليست مكلفة إذا شاهدها يتناول أشياء ينتفع بها جعل ذلك طريقة إلى تجربته، فإن ذلك مما ينصلح عليه أيضا جسمه.
وذلك مثل ما أجبنا به عن السؤال الذي أوردوه في هذا الباب واستدلوا أيضا بقوله تعالى: ﴿قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق﴾ (١) وبقوله عز وجل: ﴿أحل لكم الطيبات﴾ (2) وما شاكل ذلك من الآيات. وهذه الطريقة مبنية على السمع. ونحن لا نمتنع من أن يدل دليل السمع على أن الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على الوقف، بل عندنا الأمر على ذلك وإليه نذهب، وعلى هذا سقطت المعارضة بالآيات.
واستدل كثير من الناس على أن هذه الأشياء على الحظر أو الوقف، بأن قالوا: قد علمنا أن التحرز عن المضار واجب في العقول، وإذا كان ذلك واجبا لم يحسن منا أن نقدم على تناول ما لا نأمن أن يكون سما قاتلا فيؤدي ذلك إلى العطب، لأ نا لا نفرق