فإذا وصلت إلى هذا المقام، يظهر لك أن للعبودية ظهورا في جميع العوالم وفي مختلف نشأت العبد، من نشأة العقل والروح إلى القلب والطبع، ومن رأسه إلى قدمه، وفي جميع حركاته وسكناته. ولعل إلى بعض هذه الدرجات أشير في حديث عنوان البصري وقال " وهو أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكا، لأن العبيد لا يكون لهم ملك، بل يرون المال مال الله يضعونه حيث أمر الله، وأن لا يدبر لنفسه تدبيرا، وأن يكون جملة اشتغاله بما أمره الله تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوله الله تعالى ملكا، هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوض العبد تدبير نفسه إلى مدبره، هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد فيما أمره الله تعالى ونهاه، لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هان عليه الدنيا والرئاسة والخلق، ولا يطلب الدنيا تفاخرا وتكاثرا، ولا يطلب ما عند الناس عزا وعلوا، ولا يدع أيامه باطلا، فهذا أول درجة المتقين " (1) الحديث.
فبالجملة: أن يرى العبد نفسه وجميع العالمين من جميع الجهات، فقراء إلى الله الغني عن الكل من كل الجهات، فإذا يوجه خطابه إلى الذات، ويرى أن هذا الخطاب من الإمدادات الغيبية ومن التوفيقات الإلهية ومن الإعانات الربانية، فعند ذلك كيف يرتضي بالتشريك في العبادة وبالرياء والسمعة وغير ذلك من الأمراض النوعية القلبية؟! أعاذنا الله تعالى من شرورها بمحمد وآله الطاهرين.