فإذا عرفت ذلك، فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره، وقلة مقدرته، وكثرة عجزه، وعظيم حاجته إلى ربه في طلب طاعته، والرهبة من عقوبته، والشفقة من سخطه، فإنه لم يأمرك إلا بحسن، ولم ينهك إلا عن قبيح.
يا بنى! إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها، وانتقالها، وأنبأتك عن الآخرة وما أعد لأهلها فيها، وضربت لك فيهما الأمثال، لتعتبر بها، وتحذو عليها.
إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر نبابهم منزل جديب، فأموا منزلا خصيبا، وجنابا مريعا، فاحتملوا وعثاء الطريق، وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم ليأتوا سعة دارهم، ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشئ من ذلك ألما، ولا يرون نفقة مغرما، ولا شئ أحب إليهم مما قربهم من منزلهم، وأدناهم من محلهم.
ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبابهم إلى منزل جديب، فليس شئ أكره إليهم، ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه.
يا بنى! اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وأرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل مالا تعلم، وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك.
واعلم! أن الأعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب، فاسع في كدحك، ولا تكن خازنا لغيرك، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك.
واعلم أن أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة، وأنه لاغنى لك فيه