لم يجب أن تجعل أصلا ولا كفر من رده، بل كان يجوز مخالفته كما يجوز مثل ذلك في أقاويل المجتهدين، فلما ثبت كفر من رد بعض أحكامه وخالفه وساغ جعل جميعها أصولا، دل على أنه حكم به من جهة الوحي، وهذا الدليل ليس بصحيح، لأنه لا يمتنع أن يقال: إن في أحكامه (صلى الله عليه وآله) ما حكم به من جهة الاجتهاد ومع ذلك لا يسوغ مخالفته من حيث أوجب الله تعالى اتباعه وسوى في اتباعه ذلك بين ما قاله بوحي وبين ما قاله من جهة الاجتهاد، كما يقول من قال: إن الأمة يجوز أن تجمع على حكم من طريق الاجتهاد وإن كان لا يجوز خلافه، وإذا ثبت ذلك لم يمكن التعلق بما حكيناه، ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) * (1) فحكم بأن جميع ما يقوله وحي يوحى، فينبغي أن لا يثبت ذلك من جهة الاجتهاد، والمعتمد ما قلناه أولا من عدم الدليل على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد في جميع المكلفين وعلى جميع الأحوال.
فأما من حضر النبي (صلى الله عليه وآله) فذهب أبو علي إلى أنه لا يجوز له أن يجتهد، ويجوز ذلك لمن غاب. ومن الناس من يقول: إن لمن حضر النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا أن يجتهد، ويستدل على ذلك بخبر يروى أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر أن يقضيا بحضرته بين خصمين، وقال لهما: " إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة " (2)، وهذا خبر ضعيف من أخبار الآحاد التي لا يعتمد في مثل هذه المسألة، لأن طريقها العلم، والمعتمد في هذه المسألة أيضا ما قدمناه من عدم الدليل على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد، وذلك عام في جميع الأحوال. (3) انتهى شريف كلامه زيد في منيف مقامه.