معاناة أهل مكة أنواع البلاء ما يشفي غليل صدره ومتنفسا لحقده ووجده.
ولكنا نجده يعلن بفرحه وسروره، ويعرب عن تمنياته بزيادة النكبات، وتوالي المصاعب والمتاعب وبمضاعفة البلايا والمآسي على أولئك الذين لم يألوا جهدا ولم يدخروا وسعا في حربه، وقهره، والحاق مختلف أنواع الأذى به وبكل من يلوذ به.
نعم، إن هذا هو الذي كان يمكن ان نتوقعه منه (صلى الله عليه وآله) في ظروف كهذه ولكن من يراجع حياة النبي (ص) ومواقفه من أهل مكة قبل وبعده هذه القضية، فإنه يجده ذلك الرجل المشفق، والوالد الرحيم لهم حتى وهم يتخذون ضده وضد أهل بيته وأصحابه أعتى المواقف، ويرتكبون في حقهم أبشع الجرائم وأفضعها، فهو القائل في حرب أحد، التي قتل فيها عمه أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب: اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وهو الذي قال لأهل مكة، حينما دخلها بعد ذلك في سنة ثمان للهجرة: إذهبوا، فأنتم الطلقاء، مع أنهم قد حاربوه، ونابذوه على مدى سنوات طويلة، وقتلوا، أو تسببوا في قتل الكثيرين من الخيرة من أهل بيته وأصحابه.
وقد وصف القرآن الكريم حالته ومشاعره هذه بأنه: * (عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم) *.
بل لقد كانت نفسه تذهب حسرات عليهم، حتى لقد قال الله تعالى له: * (ولا تذهب نفسك عليهم حسرات) *. وقال مخاطبا إياه: * (لعلك باخع نفسك على آثارهم، إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) *.
نعم. وهو هو شأن المسلم الأول، وتلك هي تعاليم الاسلام والتربية الإلهية الخالصة، التي تسمو بالانسان عن أن يكون أسير انفعالاته وأحقاده، وتفتح أمامه الآفاق الرحبة، ليعيش الحياة بكل صفائها ونبلها،