فأعاده بجوابات أخرى غير ذلك، فقال له: لم أسمع بمثل هذا فأمله علي حتى أكتبه. فقال الجنيد: لئن كنت أجريه فأنا أميله، أي إن الله هو الذي يجري ذلك على قلبي وينطق به لساني، وليس هذا مستفاد من كتب ولا من تعلم، إنما هذا من فضل الله عز وجل يلهمنيه ويجريه على لساني. فقال: فمن أين استفدت هذا العلم؟ قال: من جلوسي بين يدي الله أربعين سنة. والصحيح أنه كان على مذهب سفيان الثوري وطريقه والله أعلم.
وسئل الجنيد عن العارف؟ فقال: من نطق عن سرك وأنت ساكت. وقال: مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في مذهبنا وطريقتنا. ورأى بعضهم معه مسبحة فقال له: أنت مع شرفك تتخذ مسبحة؟ فقال: طريق وصلت به إلى الله لا أفارقه. وقال له خاله السري: تكلم على الناس. فلم ير نفسه موضعا. فرأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: تكلم على الناس. فغدا على خاله، فقال له: لم تسمع مني حتى قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتكلم على الناس، فجاءه يوما شاب نصراني في صورة مسلم، فقال له: يا أبا القاسم ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " (1)؟ فأطرق الجنيد، ثم رفع رأسه إليه وقال: أسلم فقد آن لك أن تسلم: قال فأسلم الغلام. وقال الجنيد: ما انتفعت بشئ انتفاعي بأبيات سمعتها من جارية تغني بها في غرفة وهي تقول:
إذا قلت: أهدى الهجر لي حلل البلى * تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب وإن قلت: هذا القلب أحرقه الجوى (2) * تقولين لي: إن الجوى شرف القلب وإن قلت: ما أذنبت، قالت (3) مجيبة: حياتك ذنب لا يقاس به ذنب قال: فصعقت وصحت، فخرج صاحب الدار فقال: يا سيدي مالك؟ قلت: مما سمعت.
قال: هي هبة مني إليك. فقلت: قد قبلتها وهي حرة لوجه الله. ثم زوجتها لرجل، فأولدها ولدا صالحا حج على قدميه ثلاثين حجة.
وفيها توفي:
سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور أبو عثمان الواعظ ولد بالري، ونشأ بها، ثم انتقل إلى نيسابور (4) فسكنها إلى أن مات بها، وقد دخل بغداد. وكان