عظيم كبير وتجمل كثير، فاعترضهم الأصيفر أمير الاعراب، فبعثوا إليه بشابين قارئين مجيدين كانا معهم، يقال لهما أبو الحسن الرفا وأبو عبد الله بن الزجاجي (1)، وكان من أحسن الناس قراءة، ليكلماه في شئ يأخذه من الحجيج، ويطلق سراحهم ليدركوا الحج، فلما جلسا بين يديه قرآ جميعا عشرا بأصوات هائلة مطربة مطبوعة، فأدهشه ذلك وأعجبه جدا، وقال لهما: كيف عيشكما ببغداد؟ فقالا: بخير لا يزال الناس يكرموننا ويبعثون إلينا بالذهب والفضة والتحف. فقال لهما.
هل أطلق لكما أحد منهم بألف ألف دينار في يوم واحد؟ فقال: لا، ولا ألف درهم في يوم واحد.
قال: فإني أطلق لكما ألف ألف دينار في هذه اللحظة، أطلق لكما الحجيج كله، ولولا كما لما قنعت منهم بألف ألف دينار. فأطلق الحجيج كله بسببهما، فلم يتعرض أحد من الاعراب لهم، وذهب الناس إلى الحج سالمون شاكرون لذينك الرجلين المقرئين. ولما وقف الناس بعرفات قرأ هذان الرجلان قراءة عظيمة على جبل الرحمة فضج الناس بالبكاء من سائر الركوب لقراءتهما، وقالوا لأهل العراق: ما كان ينبغي لكم أن تخرجوا معكم بهذين الرجلين في سفرة واحدة، لاحتمال أن يصابا جميعا، بل كان ينبغي أن تخرجوا بأحدهما وتدعوا الآخر، فإذا أصيب سلم الآخر. وكانت الحجة والخطبة للمصريين كما هي لهم من سنين متقدمة، وقد كان أمير العراق عزم على العود سريعا إلى بغداد على طريقهم التي جاؤوا منها، وأن لا يسيروا إلى المدينة النبوية خوفا من الاعراب، وكثرة الخفارات، فشق ذلك على الناس، فوقف هذان الرجلان القارئان على جادة الطريق التي منها يعدل إلى المدينة النبوية، وقرءا (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) الآيات [التوبة: 120] فضج الناس بالبكاء وأمالت النوق أعناقها نحوهما، فمال الناس بأجمعهم والأمير إلى المدينة النبوية فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم ولله الحمد والمنة. ولما رجع هذا القارئان رتبهما ولي الأمر مع أبي بكر بن البهلول - وكان مقرئا مجيدا أيضا - ليصلوا بالناس صلاة التراويح في رمضان، فكثر الجمع وراءهم لحسن تلاوتهم، وكانوا يطيلون الصلاة جدا ويتناوبون في الإمامة، يقرأون في كل ركعة بقدر ثلاثين آية، والناس لا ينصرفون من التراويح إلا في الثلث الأول من الليل، أو قريب النصف منه. وقد قرأ ابن البهلول يوم في جامع المنصور قول تعالى (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) [الحديد:
16] فنهض إليه رجل صوفي وهو يتمايل فقال: كيف قلت؟ فأعاد الآية، فقال الصوفي: بلى والله، وسقط ميتا رحمه الله. قال ابن الجوزي: وكذلك وقع لأبي الحسن بن الخشاب شيخ ابن الرفا، وكان تلميذا لأبي بكر بن الادمي المتقدم ذكره، وكان جيد القراءة حسن الصوت أيضا، قرأ ابن الخشاب هذا في جامع الرصافة في الاحياء هذه الآية (ألم يأن للذين آمنوا) فتواجد رجل صوفي وقال: بلى والله قد آن، وجلس وبكى بكاء طويلا، ثم سكت سكتة فإذا هو ميت رحمه الله.
.