ألا ترى: أنهم لو اختلفوا، ثم أجمعوا (1) على قول كان إجماعهم قاطعا لاختلافهم بدأ، وكان بمنزلة ما لم يتقدمه اختلاف، وكثير من الإجماعات إنما حصلت على هذا الوجه، ألا ترى: أنهم قد كانوا (2) اختلفوا بعد وفاة النبي عليه السلام في أمر الإمامة، فقالت الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير) (3)، ثم أجمعوا على بيعه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فانحسم ذلك الخلاف، وصح الإجماع، وكذلك اختلفوا في قتال أهل الردة، ثم أجمعوا على قتالهم، فكان (4) إجماعهم بعد الاختلاف قاطعا للخلاف السابق له.
وكذلك اختلفوا في وجوب قسمة السواد، ثم أجمعوا على ترك قسمته، فكان إجماعا صحيحا، لم يكن لأحد بعدهم مخالفته.
قال أبو بكر: وهذا الذي ذكرنا: إنما يلزم من يقول: إن إجماعهم بعد الاختلاف يقطع الاختلاف، لأنه زعم (5) أن الإجماع إنما يثبت حكمه بانقراض أهل العصر، فأما من لا يعتبر انقراض أهل العصر في صحة وقوع الإجماع، فإنه يأبى أيضا أن يجعل إجماعهم بعد اختلافهم إجماعا صحيحا يلزم حجته، للعلة التي ذكرناها عنهم من انعقاد إجماعهم على تسويغ الاجتهاد فيه، فلا ينعقد (6) هذا الإجماع عندهم باتفاقهم على قول واحد من تلك الأقاويل، وقد قلنا: إن انعقاد إجماعهم على تسويغ الاجتهاد وجواز الاختلاف مضمن بعدم الإجماع، وهو كما تقول في المجتهد: إنه مأمور بإمضاء ما يؤديه إليه اجتهاده (بعد ذلك)، (7) وكان ما لزمه من ذلك مضمنا ببقاء الاجتهاد الأول، فإن أداه اجتهاده بعد ذلك إلى قول آخر، حرم عليه الحكم بالقول الأول،، فكانت صحة القول الأول ولزوم حكمه موقوفا على بقاء الاجتهاد المؤدي إلى القول به، وكذلك نقول: إن تسويغ الاجتهاد في المسألة التي اختلفوا فيها موقوف على عدم وقوع الإجماع على بعض تلك الأقاويل، فمتى