النظر والقياس عند فقد النصوص، فتهوروا (1) في إقدامهم على ذلك. ثم تبعهم قوم من الحشو (2) الذين لا نباهة لهم، ولا روية، وأمثال هؤلاء لا يعتد بخلافهم، ولا يؤنس بوفاقهم.
فإن قال قائل: إن الإجماع إذا صدر عن رأي واجتهاد من غير توقيف فلا بد من أن يتقدمه اختلاف ومنازعة، على مجرى العادة في قوم مختلفي الهمم والمنازل (3) في العلم أنهم إذا تشاوروا فيما كان طريقه الرأي والاجتهاد واختلفوا وتنازعوا فإذا وجدناهم متفقين من غير خلاف كان منهم تقدما (فقد علمنا): (4) أن ذلك عن توقيف.
قيل له: هذا غلط، لأنه يجوز أن يكون دليل الحكم ظاهرا جليا لا يحتاجون معه إلى استقصاء النظر، فينووا في هممهم (5) التنبيه عليه، (6) ويسبق إليه (7) بعضهم، ويحتج به فيتبعه الباقون، فلا يحصل هناك خلاف، وإن كان أصله رأيا، ومصدره عن اجتهاد. وجائز أن يكون دليل الحكم غامضا خفيا في الابتداء، (8) فيختلفون، ثم يتجلى للجميع باستقصاء النظر، وكثرة الخوض، فيصدرون عن اتفاق، (9) ثم لا ينقل إلينا مع ذلك ما كان بينهم فيه من التنازع والاختلاف، لأن وقوع الإجماع قد أغناهم عن ذلك في معرفة حكم الحادثة، ونقل الخلاف والمنازعة لا فائدة فيه.
فإن قال قائل: لو جاز وقوع الإجماع عن اجتهاد ولا يكون مع ذلك إلا حقا وصوابا لأوجب أن يكون اجتهاد الأمة أفضل من اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأعلا مرتبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يجوز عليه وقوع الخطأ في الاجتهاد.