منتقى الأصول - تقرير بحث الروحاني ، للحكيم - ج ٦ - الصفحة ٢٨٠
ومن الغريب (1) ان المحقق المذكور لا يعتبر سوى فعلية اليقين والشك، ثم يذهب إلى عدم جريان الاستصحاب في الفرضين المذكورين، فالتفت ولا تغفل والله سبحانه المسدد.
(١) ما ذكرناه في الايراد عليه (قده) هو الذي ذكره غيرنا أيضا، ولكن حمل كلامه على ظاهره من اعتبار اليقين السابق وعدم انتقاضه بيقين متأخر عنه لا يمكننا الالتزام به لقرينتين:
إحداهما: أنه قد صرح مرارا من أول الاستصحاب إلى هذا المبحث بل صرح في هذا المبحث بالخصوص بأنه لا يعتبر في الاستصحاب سوى اليقين والشك الفعليين إلا أن أحدهما يتعلق بالحدوث والاخر بالبقاء وجعل هذا هو المائز بين الاستصحاب وقاعدة اليقين، ولا نحتمل في حقه (قده) أنه يعتبر اليقين السابق في الاستصحاب.
والأخرى: ما ذكره من مثال الدم المحتمل كونه دم بق، فان الظاهر أنه مثال لما هو المتعارف من وجدان الانسان دما على ثوبه يحتمل أنه من جرح بدنه أو أنه من البق، ومن الواضح أن الشخص في مثل ذلك لم يحصل له يقين بنجاسة فردي الدم، ثم حصل له يقين بطهارة أحدهما وهو ما امتصه البق ثم اشتبه الحال بين الفردين بل اليقين والشك فعليان، حاصلان بالفعل من دون تقدم زماني بينهما. فالمثال لا ينطبق على ما حمل عليه كلامه.
ويمكن أن يوجه ما أفاده وإن كان على خلاف ظاهر عبارة التقريرات ببيان مقدمتين:
أحدهما: أن اليقين الاجمالي الناقض لليقين السابق والرافع له هو اليقين بالنحوين الأخيرين دون الأول، فلو علم تفصيلا بنجاسة كلا الإناءين ثم علم بطهارة أحدهما من دون مميز أصلا لم يتحقق انتقاض اليقين السابق بهذا اليقين، فلا يمكن الإشارة إلى أحدهما واقعا والحكم عليه بأنه متيقن الطهارة. (ظاهر كلام النائيني في التقريرات هو تحقق العلم التفصيلي - في الفرض الثاني - ثم عروض الاشتباه، ولكن السيد الأستاذ دام ظله حمل كلتا الصورتين على الاجمالي والفرق في كثرة المميزات وعدم الكثرة، فانتبه).
وهذا بخلاف ما إذا تعلق اليقين الاجمالي بطهارة أحدهما مع مميز له سواء كان تمييزه بالعناوين المتعددة التي يسهل تشخيصه تفصيلا ويكون مشابها للمعلوم بالتفصيل، كما في الفرض الثاني أم بعنوان واحد كعنوان الاناء الشرقي - مثلا - كما في الفرض الثالث فان مثل هذا اليقين يكون ناقضا لليقين بالنجاسة التفصيلي، إذ يمكن الإشارة إلى ذلك الاناء بعنوانه المميز له والحكم عليه بأنه قد ارتفع عنه اليقين بالنجاسة وتعلق اليقين بطهارته.
الثانية: أن دليل الاستصحاب يتكفل اعتبار تعلق اليقين بالحدوث والشك في البقاء، وظاهره اعتبار فعلية كلا الوصفين، فلا لكون أحدهما ناقضا للاخر، كما أنه تكفل الحكم بنقض اليقين باليقين الاخر، وهذا غير متصور في باب الاستصحاب لاجتماع اليقينين في آن واحد. إذن فما معنى الحكم بالنقض وعدمه؟ الذي يراد بالنقض كما عرفت هو النقض العملي، وإطلاق النقض إنما هو بملاحظة أن اليقين الاخر لو تعقب اليقين الأول واتحد متعلقهما لكان ناقضا له، فالمراد باليقين الناقض في باب الاستصحاب هو هذا الفرد من اليقين، الذي لو فرض تعلقه بما تعلق به اليقين الأول وكان متأخرا عنه كان ناقضا له ورافعا لوجوده، وإلا فلا نقض حقيقة في باب الاستصحاب، وأما غير هذا الفرد من اليقين فلا يكون مشمولا لقوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر ".
إذا عرفت هذا اتضح مراده (قده) فإنه اليقين الاجمالي في الفرض الأول حيث لا يحصل لنقض اليقين السابق التفصيلي، فلا يكون لوجوده أثر في المنع عن الاستصحاب لأنه غير مشمول للذيل.
بخلافه في الفرضين الآخرين لأنه صالح لنقض اليقين السابق كما عرفت. فليس مراده اعتبار اليقين السابق كما توهم، بل مراده هو اليقين الفعلي المتعلق بالحدوث، وإن اليقين الاجمالي المقترن معه يصلح لنقضه في بعض الصور فيكون مشمولا للحكم بالنقض في الذيل، فيكون المورد من موارد الشبهة المصداقية للذيل، فتدبر جيدا.
هذا غاية ما يمكن أن يوجه به كلامه لكنه مبني أولا: على كون المستفاد من قوله: " ولكن تنقضه بيقين آخر " حكما شرعيا مستقلا موضوعه اليقين بالنحو الذي عرفته، فيعارض الحكم الاستصحابي أو يقيده. وأما بناء على كون المستفاد منه تحديد جريان الاستصحاب بارتفاع موضوعه وهو الشك كما يستفاد من قوله: " لا حتى يستيقن " فهو بيان لحكم ارشادي عقلي، فلا يتم ما أفاده لأنه لا يزيد على اعتبار الشك في جريان الاستصحاب ويكون متما لذلك. ومن الواضح أن الشك فيما نحن فيه موجود بالنسبة إلى كل من الإناءين، فلا مانع من جريان الاستصحاب وتحقيق ذلك فيما يأتي إن شاء الله.
وثانيا: على الفرق بين الفرض الأول والفرضين الآخرين ببيان أن العلم في الأول لا يرتبط بالخارج بل هو متعلق بالجامع كما تقدم في مبحث العلم الاجمالي، وقد تقدم منا بيان ارتباط مثل هذا المعلوم بالاجمال بالخارج وإمكان الإشارة إلى أحدهما واقعا بواسطة منشأ العلم، كوقوع المطر ونحوه، فراجع.
وثالثا: على تحقيق المراد باليقين الناقض وأنه هل يختص باليقين التفصيلي أو يعم غيره، وعلى تقدير عمومه لغيره فهل يختلف الحال بين الفروض أو لا؟ وتحقيقه في محله إن شاء الله.
ثم ليعلم أن مثال اشتباه الدم بدم ابق إنما يتم لو علم بامتصاص البق لدمه واحتمل أن يكون الدم الذي يراه هو ذلك الدم الممتص، وأما لو لم يعلم ذلك أصلا وإنما احتمله احتمالا فلا مجال لهذا الكلام لعدم تحقق اليقين الناقض فلا مجال إلا لاستصحاب النجاسة.
هذا تمام الكلام في استصحاب مجهولي التاريخ، ولا بأس في التعرض إلى فرع ذكر في هذا المبحث وجعل من فروع المسالة وهو ما إذا علم بكرية الماء وملاقاته للنجاسة وشك في أن الملاقاة سابقة على كرية الماء فيكون نجسا - بناء على عدم طهارة الماء النجس المتمم كرا - أو أن الكرية سابقة على الملاقاة فيكون الماء طاهرا.
فقد ذكر أن هذا الفرع من مصاديق المسالة وذكر له صور ثلاثة: إحداهما: أن يجهل بتاريخ كل من الملاقاة والكرية. والثانية: أن يعلم بتاريخ الكرية دون الملاقاة، والثالثة: أن يعلم بتاريخ الملاقاة دون الكرية.
وإن حكم الصور الثلاث من حيث جريان الاستصحاب وعدمه هو ما تقدم في مجهولي التاريخ ومختلفيهما. فمثلا تجري - في صورة الجهل بتأريخهما - أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة وأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية فيتعارضان ويتساقطان بناء على أن المانع من جريان الأصل في مجهولي التاريخ هو المعارضة، كما أنهما لا تجريان في أنفسهما بناء على أن المانع من جريان الأصل في المجهولين في نفسه كما ذهب إليه صاحب الكفاية.
أقول: هذه الصورة وإن كانت من موارد مجهولي التاريخ صورة لكنها ليست منها اصطلاحا، فان موضوع البحث في مجهولي التاريخ - على ما تقدم أن يكون موضوع الأثر هو عدم أحدهما في زمان الاخر بنحو الموضوع المركب، والامر ليس كذلك فيما نحن فيه، فان عدم الكرية والملاقاة موضوع مركب للحكم بالنجاسة، فيصح إجراء أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة لاثبات الموضوع المركب للحكم بالنجاسة ولكن عدم الملاقاة والكرية ليس موضوعا للحكم بالطهارة إذ مع الكرية لا أثر للملاقاة وعدمها فلا معنى لاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية، نعم عدم الملاقاة في زمان عدم الكرية موضوع للحكم بالطهارة.