هو سلسلة العلل والمعلولات من بدوها إلى ختمها، فان دار الوجود دار العلل والأسباب ولكل من الموجودات الإمكانية تأثيرات مخصوصة بنفسه لا توجد في غيره، وعلية الأشياء لمعلولاتها ليست مجعولة وانما هي من جهة خصوصيات في ذواتها، والذاتيات لا تعلل والمجعول انما هو ذوات العلل والأسباب بالجعل البسيط، فكل موجود وان سبقته الإرادة الأزلية وكان وجوده مفاضا من قبل المبدأ الفياض الا ان له خواص وآثارا ذاتية غير قابلة للجعل، وبها يصير علة لغيره ومؤثرا فيه، وعلي هذا فما تعلق به العلم الفعلي أعني ارادته التكوينية انما هو وجود الأشياء وتحققها بذواتها، واما عليتها ومعلوليتها فمتعلقتان لما يشبه العلم الانفعالي لعدم كونهما مجعولتين حتى يسبقهما العلم القضائي الفعلي.
(إذا عرفت هذا فاعلم) ان الانسان كما يكون بدنه مركبا من طبائع مختلفة متباينة في الآثار والخواص والمقتضيات، فكذلك جوهره الحقيقي وروحه الذي به صار انسانا، مركب من رقائق مختلفة ولطائف متباينة الآثار والخواص بحيث يكون مجموعة من استعدادات متفاوتة وأميال مختلفة يقتضى كل واحد منها شيئا غير ما يقتضيه الاخر، فله ميل إلى العوالم العالية الملكوتية، وميل إلى العوالم السافلة الحيوانية، وقد جعل الله تعالى (مع ذلك) لهذا الوجود الشريف قوة قاضية مميزة يميز بها الخبيث والطيب وطريقي السعادة والشقاوة وهي القوة العاقلة، وأيدها بالكتب السماوية والأنبياء والمرسلين، وجعله بحيث لا يقدم على عمل الا بعد ادراكه طرفي الفعل والترك وما يترتب عليهما، وقدرته على كليهما، واختياره بنفسه أحدهما على الاخر، (فتارة) يختار ما هو مقتضى اللطيفة الملكوتية والطينة العليينية، (وأخرى) ما هو مقتضى الجبلة الشيطانية والطينة السجينية، ففي كليهما يكون صدور الفعل عنه من جهة ما في ذاته من الاستعداد المقتضى لهذا الفعل، لما عرفت من أن روحه مخمرة من الاستعدادات المختلفة المقتضية لأفعال متفاوتة. والمجعول له تعالى نفس تلك الرقايق لا عليتها، ولكن الانسان مع ذلك ليس مسلوب الاختيار بل كل فعل يصدر عنه فإنما يصدر عنه بعد التفاته واختياره بنفسه أحد الطرفين على الاخر، وهذا الاختيار هو مناط الثواب والعقاب لا الإرادة كما زعمه صاحب الكفاية وكان يكررها في درسه، إذ هي